كورونا: فیروس الجوع والموت الاقتصادي/علي العتابي

الجمعة - 21/08/2020 - 22:24
علي عبد الھادي عبد علي العتابي


كنت كثیرا ما اشاھده یمر من امامي حاملا آلتھ الزراعیة البدائیة والمعروفة باللھجة العراقیة ب (المسحاة) لیلقي علي السلام ثم یستطرق ذاھبا الى عملھ في الصباح الباكر سیراً على الاقدام. "أبو علي"، جاري الفقیر الذي یعمل عامل بناء بأجر یومي لا یتعدى ١٣ دولار یومین في الأسبوع ویسكن بأرض لا تعود لھ وبأطراف حینا السكني، بات الیوم جلیس الدار بعد فرض حظر التجوال بسبب جائحة كورونا نظرا لتوقف اغلب المشاریع الاقتصادیة التي یعتمد علیھا رزقھ لا سیما مشاریع البناء.
"أبو علي" واحد من الاف العمال الذین فقدوا مصدر رزقھم الیومي وأصبحوا یعیشون على مساعدات اھل الخیر التي تأتي تارة وأخرى لا یحالفھ الحظ فیھا، یكابد مع عائلتھ المكونة من زوجتھ واطفالھ الأربعة ضنك العیش.
وتقول منظمات شبھ رسمیة ان ما یقرب من مائة الف عامل واجیر وصاحب دخل یومي فقدوا عملھم بسبب الإجراءات الوقائیة التي تتبعھا السلطات العراقیة، في وقت قامت دول أخرى في أیام الحظر الاجباري بتقدیم منح مالیة شھریة تتراوح ما بین مئتي دولار كحد ادنى وألف واربعمائة دولار في بعض الدول الاوربیة، غیر ان العراق الذي یصدر وفق منظمة أوبك حوالي أربعة ملایین وستمئة الف برمیل من النفط یومیاً، غیر قادر على تعویض أصحاب الدخول المحدودة وخسائرھم الیومیة نظرا لانخفاض أسعار النفط العالمي الذي وصل في ادنى مستویاتھ منذ عقود الى ٢٠ دولاراً للبرمیل الواحد یضاف لھا سیاسة خفض الإنتاج التي ستدخل حیز التنفیذ بدءا من الأشھر القادمة وحتى نھایة العام ٢٠٢١ ، اذ سیكون العراق مضطرا لخفض ما یقارب ملیون وستمئة ألف برمیل أي بنسبة ٢٣ ٪ من مجمل انتاجھ الیومي.
خبراء في مجال النفط والطاقة أكدوا ان العراق سیتكبد خسائر فادحة نتیجة موافقتھ على قرار التخفیض الذي فرضتھ أزمة كورونا وضعف الطلب على النفط العالمي من حیث انھ یصدر اقل من حصتھ الرسمیة المقدرة وفق منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" والبالغة ستة ملایین برمیل یومیا. فضلا عن ان العراق یعد ثاني أكبر مصدر ١٣ دولارا للبرمیل، - في المنظمة بعد السعودیة یضاف لھا تكلفة انتاج برمیل النفط العراقي التي یتراوح بین ١٠ الامر الذي یراه مختصون على انھ سیضع الحكومة في حرج امام دفع مرتبات موظفیھا الذي وصل تعدادھم الى أكثر من ٤ ملایین موظف ویأخذون ٦٠ ٪ من اجمالي الموازنة التشغیلیة للبلاد. ھذا إذا ما صرفنا النظر عن تبعات كورونا الاقتصادیة التي من المقدر ان تستمر حتى نھایة عام ٢٠٢٢ لا سیما على حركة النقل الجوي
والمائي وقطاع الشحن والمواد الغذائیة والسیاحة.
ویرى خبراء في سوق العراق للأوراق المالیة ان الموازنة العراقیة الحالیة التي احتسبت وفق سعر ٥٢ دولاراً للبرمیل، في وقت ھوت فیھ الأسعار الحقیقیة الى ما دون ٢٠ دولاراً ستجعل العراق یعاني عجزا مالیا یقدر ب ٤٩ ترلیون دینار عراقي. فضلاً عن التزامات مالیة داخلیة كانت قد وعدت بھا الحكومة المستقیلة برئاسة عادل عبد المھدي بعد ان أطلقت وظائف مؤقتھ على شكل عقود ل ٢٠٠ ألف عراقي في أكثر من وزارة استھلاكیة، لاسیما وزارة التربیة والتعلیم العالي.
كل ذلك ولایزال العراق یعیش ازمة امنیة وصحیة خانقة حتى قبل انتشار جائحة كورونا، فحربھ ضد الجماعات الإرھابیة المسلحة في شمال غرب البلاد، والعملیات التعرضیة التي تقوم بھا خلایا تنظیم داعش لا تزال تشكل ھاجسا یراود صناع القرار في بغداد، ما استوجب إنفاق العراق حوالي ٢٠،٥ ملیار دولار على منظومتھ العسكریة وتعزیز قدراتھ الدفاعیة، وفق التقریر السنوي الذي أصدره معھد الدراسات الاستراتیجیة في الولایات المتحدة الأمریكیة بأنھ حل العراق المرتبة ١٥ كأكثر بلدان العالم إنفاقاً على السلاح لعام ٢٠١٩ وما یزید المشھد الاقتصادي تعقیداً في العراق، ھي الازمة الدائمة بین الحكومة الاتحادیة وحكومة إقلیم كردستان العراق، لا سیما بما یخص تقسیم عائدات نفط حقول شمال العراق والتي لا تزال حكومة الإقلیم ترفض تسلیمھا الى الحكومة المركزیة رغم ابرام أكثر من اتفاقیة نصت على تسلیم الإقلیم ل ٢٥٠ ألف برمیل یومیا الى بغداد عبر شركة سومو الوطنیة وھو امر لم یتحقق حتى الیوم وفق وزارة النفط العراقیة على الرغم من دفع الحكومة المركزیة رواتب موظفي الإقلیم من عائدات النفط الاتحادیة.
ورغم ان وباء كورونا قد ساھم بشكل واضح في تراجع الاقتصاد والحركة التجاریة في البلاد من اشھر، الا انھ قد تضطر الحكومة للقیام بإجراءات من شأنھا تعزیز الاقتصاد الوطني لعل من ابرزھا المقترحات التي تبناھا مجلس الوزراء بخفض الانفاق الخارجي، ومنع استیراد السلع الكمالیة، وتعزیز قطاع الزراعة المحلیة، وإعلان وزارة الزراعة وصول العراق عتبة الاكتفاء الذاتي من محاصیل الحبوب، وقدرة الوزارة على تصدیر ٨٥٠ الف طن من الشعیر ھذا العام وھي المرة الأولى التي یصل فیھا الإنتاج مستویات قیاسیة منذ ٥٠ عاما، في وقت أعلنت فیھ الوزارة منع استیراد ٢٥ نوعاً من المحاصیل الزراعیة والحیوانیة دعما للمنتج الوطني، الا ان ذلك لم یسھم فعلیا في خفض الانفاق العام او التصدیر أي مما تقدم بسبب وباء كورونا واغلاق الحدود الدولیة واقتصارھا على تبادل
المواد الطبیة الضروریة.
وفي الغضون، أعلنت الحكومة العراقیة انھا ستطلق منحة طوارئ للمتضررین اقتصادیاً من جراء جائحة كورونا في خطوة تھدف للتقلیل من التداعیات الكارثیة على أصحاب الدخل المحدود، اذ اشارت الحكومة العراقیة الى انھا حددت مبلغ ٣٠ ألف دینار عراقي لكل مواطن متضرر لشھري نیسان وایار ٢٠٢٠ ، أي ما یعادل ٢٤ دولار للشھر الواحد، فیما أعلنت وزارة العمل والشؤون الاجتماعیة ان عدد المتقدمین للشمول بھذه المنحة بلغ أكثر من ١٢ ملیون مواطن.
الى ذلك شرعت العدید من المنظمات الإنسانیة والفرق التطوعیة وبعض المبادرات الشخصیة من قبل میسورین الى اطلاق حملات إغاثة واسعة في اغلب المدن العراقیة، لا سیما الجنوبیة منھا وذلك بعد دعوة مرجعیات دینیة واجتماعیة ووجھاء الى التكافل الاجتماعي لتجاوز ازمة كورونا، ولم یقتصر أثر كورونا الاقتصادي على أصحاب الدخل المحدود فحسب، بل تعدى ذلك لیشمل فعالیات اقتصادیة مختلفة، فمع تأخر اعلان اكتشاف لقاح فعال للفیروس المستجد وتشدید منظمة الصحة العالمیة على ضرورة الالتزام بالإجراءات الوقائیة وعدم التھاون بھا، قررت الحكومة العراقیة ضمن إجراءاتھا الجدیدة إیقاف عمل سیارات الأجرة التي یزید عدد ركابھا عن أربعة اشخاص فضلا عن إعادة العمل بنظام مدیریة المرور القدیم والمعروف محلیا (بالزوجي والفردي) الذي یتلخص فحواه بتقسیم سیر المركبات الخاصة في الشارع بحسب اول رقم من لوحة السیارة؛ یوم للسیارات التي تبدأ برقم فردي واخر لتلك التي تبدأ برقم زوجي ضمن خطة تقلیل الزحمة في الشارع لمواجھة مخاطر كورونا،
الامر الذي أعاق عمل أصحاب سیارات الأجرة، اذ بات عملھم نصف اسبوعي وفق النظام الحالي اما السیارات الخاصة فممنوع سیرھا باستثناء مركبات الاجھزة الأمنیة والصحیة والصحفیة.
ومن خلال ما تقدم، یمكن القول ان العراق بات على شفا حفرة من الركود الاقتصادي، لا سیما وان ریع البلاد احادي الدخل ویعتمد بنسبة ٥٩ ٪ على إیرادات مبیعاتھ من النفط الخام ، یضاف لھا الشلل الاقتصادي الداخلي ما یجعل من فیروس كورونا كالقشة التي قصمت ظھر الاقتصاد العراقي الذي لم یستثمر أي مورد طبیعي اخر في ظل حجم الفساد الذي تعانیھ الدولة منذ ١٦ عاما، والمشاكل الأمنیة الداخلیة، وھو ما سیجعل من العراق ساحة خصبة للصراع القادم لكن لیس على النفوذ ھذه المرة بل على الموارد الضئیلة المتبقیة بین الفرقاء السیاسیین وستكون بانتظار العراق سنوات صعبة ان لم یكن في البلد حكم رشید یستطیع انقاذ ما تبقى من إیرادات مالیة وادارتھا بشكل سلیم لتجاوز ازمة قد تطول لسنوات.
ومع التحولات السیاسیة والاقتصادیة الخطیرة التي طرأت في العراق خلال الأشھر القلیلة الماضیة، واھمھا استقالة حكومة عادل عبد المھدي إثر التظاھرات المطلبیة التي قادھا الشباب وتحولھا الى حكومة تصریف اعمال یومیة لخمسة اشھر، تعثرت كثیرا دون ان تستطیع تحقیق أي ھدف من اھداف برنامجھا الحكومي المطول وصولاً الى اختیار رئیس وزراء جدید وھو رئیس جھاز المخابرات العراقي السید مصطفى الكاظمي. لا یزال البلد یأن تحت وطئة الفقر والجوع الذي فاقمتھ جائحة كورونا ، اذ اشارت تقاریر صحفیة الى ان العراق قد لا یكون قادر على صرف مرتبات موظفیھ حتى نھایة العام الحالي دون ان تخضع لما وصف بالادخار الاجباري وبنسب متفاوتة تتراوح ما بین ( ١٢ ٪) للطبقات الأكثر تضررا وصولا الى ( ٣٥ ٪) للطبقات الأقل تضررا وفق حجم الراتب الفعلي لكل شریحة، وھو امر لاقى أصداء رافضة كبیرة في الشارع العراقي لا سیما وان اغلب الموظفین یعتمدون بشكل كلي على مرتباتھم ، اذ تمنع القوانین العراقیة النافذة على الموظف ممارسة أي عمل
اخر في حال تمتعھ بالوظیفة ما یعني عدم قدرتھ على ممارسة اعمال حرة بشكل رسمي حیث ان الكثیر یمارسونھا بشكل غیر معلن، ومن ھنا فان الاقتصاد العراقي الداخلي یتحرك وفقاً لحجم الانفاق لموظفي الدولة شھریاً، الامر الذي یؤثر بشكل نسبي على سعر صرف الدولار في الأسواق المحلیة. وبالتالي فان أي مساس بالأجور الثابتة للموظفین كفیل بأحداث ھزة اقتصادیة شبیھة بما مر بھ العراق بعد فرض الحصار الاقتصادي علیھ في مطلع تسعینیات القرن الماضي عندما فقدت العملة العراقیة قیمتھا وباتت الشریحة الأكثر تضرراً جراء ذلك ھم الموظفون التي أصبحت رواتبھم لا تسد رمق عیشھم حتى نھایة الشھر. وقد یقول قائل ان الوضع العراقي الیوم افضل بكثیر، اذ لا حصار یعاني منھ العراق وسقف انتاجھ من النفط تضاعف بشكل كبیر، وعلاقتھ بمحیطھ الدولي جیدة فلا داعي للخوف من وجود ازمة اقتصادیة، ولو سلمنا بصحة ھذه الفرضیة فأننا بالمقابل نقول ان العراق لا یملك أي سیاسة تجاریة ولا یصدر للخارج غیر النفط ولا یملك أي احتیاطي مالي كبیر فضلا عن
اختفاء الفروقات المالیة للموازنات العامة للسنوات الخمسة عشر الأخیرة التي تعدت ال ١٠٠ ملیار دولار والتي لو كانت حاضرة ضمن احتیاطي البنك المركزي العراقي لكان العراق قد عبر ازمة كورونا بشكل سلس خاصة ان الموازنة التشغیلیة للبلاد والتي تتلخص برواتب الموظفین والمتقاعدین والمستفیدین من شبكة الحمایة الاجتماعیة لا تتعدى ٦ ملیارات دولار شھریا (قرابة ٧ ترلیون دینار عراقي) ، الا ان حجم الفساد والھدر بالمال العام وانفاق ملایین الدولارات على مشاریع ثانویة وأخرى لم تكتمل ناھیك عن الأموال التي ھربھا متنفذون الى الخارج أسھمت في خواء الاحتیاطي الاستراتیجي العراقي وبقائھ معتمدا بشكل كامل على واردات النفط الشھریة في وقت ظھرت فیھ الطبقیة في المجتمع بشكل واسع فلم تعد ھناك طبقة وسطى عریضة في المجتمع بل واحدة ساحقة وثانیة مسحوقة مالیا، حیث اذا استمرت ازمة كورونا بالضغط على أسعار النفط العالمي فإنھا ستجعل من ٤
ملایین موظف حالیا ضمن الطبقة المسحوقة مالیا.
ولعل ما یصعد من المخاوف تجاه تبعات كورونا الاقتصادیة على العالم اجمع ھو تصریح الأمین العام للأمم المتحدة أنطونیو جوتیریس الذي أشار الى ان جائحة كورونا (كوفید- ١٩ ) ھي اسوء ازمة تواجھ العالم منذ الحرب العالمیة الثانیة مبین خشیتھ من تأثیر ذلك في تأجیج الحروب والصراعات حول العالم، وفي بلد مثل العراق الذي یعیش اكثر من ٢٠ ٪ من سكانھ تحت خط الفقر فانھ سیكون بالتأكید من اكثر البلدان تضررا من اثار كورونا الاقتصادیة بالأخص مع ھشاشة جبھتھ الداخلیة واستمرار الخلافات بین قادة البلاد واستشراء الفساد في شتى مجالات الحیاة.
وبحسب الجھاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطیط العراقیة، فإن استیراد العراق من السلع الغذائیة والمحاصیل الزراعیة یبلغ ١٢٫٤ ملیار دولار سنویاً من إجمالي الاستیراد الذي یتجاوز ٤٠ ملیار، اي ان العراق الذي لا ینتج محلیا ما یمكن ان یسد احتیاجاتھ الغذائیة، سیكون مضطرا لمواجھة تحدي جدید یتمثل بتوفیر الاموال بالعملة الصعبة لاستیراد المواد الغذائیة الاساسیة للشعب العراقي خصوصا وان السیاسة الحكومیة في العراق لم تدعم القطاع الخاص او الاستثمار بشكل فعلي ولم تقدم للمصانع والمعامل المحلیة أي تسھیلات مالیة او قانونیة لضمان منافستھا للمنتج المستورد ما حدى بالكثیر من اصحاب ھذه المعامل الى اقفالھا والتحول الى تجارة المواد الغذائیة بدل تصنیعھا وتعلیبھا في الداخل العراقي والحفاظ على المال العراقي من التحول الى خارج الحدود، ھذا اذا استمرت الازمة الاقتصادیة فقد یدفع ببعض التجار الى احتكار السلع والبضائع والمواد الغذائیة بھدف رفع اسعارھا فیما بعد وھو امر وارد الحدوث خاصة مع وجود سوابق في ھذا المضمار لا سیما وان الاقتصاد العراقي
لا یزال ھشاً امام الصدمات المالیة ولم یتعافى بعد من مشاكل مالیة ومدیونیة خارجیة كبیرة واقتراض مزدوج من الداخل والخارج وبالتالي فان العراق في اسوء الحالات قد یتعرض الى مشكلتین مركبتین في آن واحد: الاولى ھي انھیار اسعار النفط التي تمثل عصب الاقتصاد العراقي والثانیة استمرار تداعیات ازمة كورونا على العالم اقتصادیا وبالتالي فان جمیع الآمال معلقة بشكل كبیر على تدخل الاقدار في رفع سعر برمیل النفط العراقي في الاسواق العالمیة لا سیما وان انتاج العراق حتى شھر مارس ٢٠٢٠ لا یتعدى ٣ ملایین برمیل وبسعر تقریبي یساوي ٢٠ دولار للبرمیل الواحد أي ان موازنة العراق الكلیة شھریاً لا تتعدى ٣ ملیارات دولار وھي تساوي نصف ما یحتاج العراق لتأمین رواتب الموظفین، وخلاصة القول ان كورونا بحق بات فیروس الجوع والموت الاقتصادي.