محمد باقر الناصري..بين الاسلام والديمقراطية مدرسة الجهاد المعتدلة/مهدي الصافي

الاحد - 02/08/2020 - 12:18
الشيخ محمد باقر الناصري (من الارشيف).


"ليس غريبا ان يقف رجل مثلي في المؤتمر يطالب بالديمقراطية واعتماد نتائج صناديق الاقتراع",بهذا المعنى وقف الامين العام لجماعة العلماء الشيخ محمد باقر الناصري في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة(تشرين الثاني 1992), مؤكدا ان الاسلام لايتعارض مع الديمقراطية الملتزمة بثوابت الامة,وقد انتشر اصداء تلك الكلمة المؤسسة لعهد جديد بين الحركات الاسلامية ورجال الدين والنظرية الديمقراطية في الحكم في جميع محافظات شمال العراق والعالم(الذي تتواجد فيه الجاليات العراقية),
ولقد سمعت منه كثيرا ردود عديدة على المدرسة الدينية التقليدية الرافضة لهذا المبدأ,الا انه اصر على ان الشعب من حقه الاختيار بحرية ,وان فشل الاسلاميين في نيل ثقة الجماهير مدعاة للمراجعة والاصلاح والتغيير,وكأنه بذلك يدعم نظرية اخيه الباحث الدكتور محمد علي الناصري(رحمهم الله)نظام الولايات في الاسلام
(حيث انه كان يقول ان الرسول محمد ص ابقى شيوخ وزعماء القبائل في اليمن وبقية الامصار التي دخلت حديثا في الاسلام على ولايتهم السابقة,ولم يلحقهم او يفرض عليهم واليا غريبا),كانت تلك المرحلة من اعقد واخطر المراحل في تاريخ الحركة الاسلامية السياسية,التي انقسمت الى مؤيد ومعارض
(اذ بعضهم يعد الديمقراطية نظام سياسي محرم لانه يخضع الدين والحدود وتطبيق الشريعة للامزجة والاراء والاختيارات الشعبية ,وليس للثواتب والعقائد الدينية,الا ان الخط المقابل يضع مسألة اسباب عدم قبول الناس دليلا على الاخطاء في النهج والتطبيق ,وان من مبادئ الاسلام عدم الاكراه في فرض طريقة حياة الناس وكيفية ادارة شؤونهم)...
كان بيت الناصري(الشيخ عباس عواد الخويبراوي والشيخ محمد باقر الناصري)مدرسة للعلم والجهاد,اذ لازال يذكر قدماء اهالي المحافظة فزعة الشيخ المجتهد عباس في مقارعة الاستعمار الانكليزي,
ووقفته مع اهالي المحافظة ايام الفيضانات ومشاكلهم الاجتماعية والادارية والسياسية,وتعد المدرسة الدينية التي انشأها المجتهد الشيخ عباس(قدس سره)في مسجده الذي حمل اسمه(1932)في سوق الصفارين والنجارين من اهم الانجازات العلمية المعروفة في جنوب العراق(المعترف بها رسميا من الحوزة والدولة حينها),
وكذلك المكتبة التراثية التي اضافت لهذا المركز والجامع الاسلامي الكبير الكثير من الاهمية البحثية والعلمية,ورث عنه الشيخ محمد باقر الناصري العلوم الدينية,وحمل مبكرا امانة اكمال المسيرة الدينية والاجتماعية والسياسية,وكانت علاقته الخاصة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره)الاثر البالغ في دعم ابناء الدعوة في المحافظة,فكنت شاهدا منذ الصغر على هذا التوجه الاسلامي الجهادي,فبعد الانتهاء من خطب الشيخ في مسجد الشيخ عباس رحمهم الله,يطلب من الشباب في المسجد تشكيل حلقات صغيرة للدعوة والارشاد الديني(اتضح فيما بعد ان اغلب من كان يقوم بها من كوادر واعضاء حزب الدعوة الاسلامية, الذي اعتقل واعدم اغلبهم من قبل نظام البعث الارهابي),
وهو يستذكر بفخر ايضا محاولاته في حث ابناء الناصرية للعمل معه على اصدار مجلة(نشرة)التضامن الاسلامي ستينيات القرن الماضي,انقطعت بعد الهجرة,ثم عادت كمؤسسة واسعة شملت مبرات الايتام والمعاهد والمدارس والكيان السياسي للتضامن الاسلامي...
هاجر الناصري الى سوريا (1979على ما اذكر )بعد حملات الاعتقالات الوحشية التي طالت ابناء الحركات الاسلامية في العراق,فقد كانت النجف وكربلاء وبقية محافظات الجنوب مسرحا للاعتقالات العشوائية,ولازال منظر الدبابات والعجلات العسكرية ووحدات من الجيش والاجهزة الامنية التي تراقب مداخل المدن المقدسة(النجف وكربلاء والطرق القادمة من الجنوب)عالقا في الاذهان,كان النظام البعثي الاجرامي يعتبر زيارة الاربعين مشروع ثورة دائمة, تهدد نظام حكمه بالزوال(ولهذا نصب عدة معسكرات اعتقال دموية استخدم فيها كل اساليب التعذيب الوحشية,حيث كانت قصص استخدام المكواة الكهربائية في التعذيب والتجويع تخرج عبر بعض ممن يطلق سراحهم الى الناس,كبداية اعلان مرحلة جديدة من الارهاب والتخويف في عهد المجرم صدام),
ولم يتحمل الم الغربة والابتعاد عن ارض اباءه واجداده فعزم على العودة,وارسل الى اهله وابناء الناصرية بأنه لن يستطيع البقاء اكثر في المهجر ,وانه يفضل الاستشهاد في بلده على الاستمرار في هذه المعاناة,فذهبت عدة وفود الى سوريا
(في الفترة القصيرة التي سمح بها نظام صدام بتبادل الزيارات بين البلدين ثم امر بقطعها بعد ذلك),وكلف عدد من افراد عائلته بالذهاب الى سوريا مرة اخرى لاقناعه بعدم العودة,ثم طلب منهم بعد العودة الى العراق ان يتصل بهم لمعرفة الاوضاع,وقد كان اخر اتصال منه الى بيتنا وذكرنا له ان اهالي الناصرية يطلبون منه عدم العودة....
ماحك جلدك مثل ظفرك(الشافعي),
بهذه الكلمات كان الناصري يوصي ابناء المعارضة العراقية في ايران وسوريا, ان يهتموا بقضيتهم بعيدا عن الاملاءات والتدخلات الخارجية,وهو الذي يذكر بحرقة دائما ماحصل عند الحدود الايرانية العراقية ابان احداث انتفاضة 15 شعبان عام 1991,ينتظر اذن الجانب الايراني بالسماح له ولثلة مؤمنة معه بالنزول الى العراق ,والمشاركة بقيادة تلك الانتفاضة الخالدة(جدير بالذكر ان السيد الخامنئي وبعد ان استشعر خطر تعرض بلده لاحتمالات التورط بالمستنقع الخليجي ,فتكون ايران عرضة لهجوم مدمر محتمل من قبل قوات التحالف, اصدر بيان وامر بمنع نزول اي من المعارضة العراقية الى الداخل والمشاركة بالانتفاضة,بما فيه فيلق بدر),
حيث وصلت اصداء نزوله الى الداخل مع ثلة مؤمنة من مجاهدي الاهوار والمعارضة الى مركز مدينة الناصرية(شيء بالشيء يذكر كنا في بيته قبل سقوط مدينة الناصرية بيد ثوار انتفاضة 15 شعبان في ثالث يوم من فاتحة والدته رحمها الله تعالى ,وقد دخل بعض الناس الى البيت اكثر من مرة بالهوسات والاهازيج الثورية الحماسية,وانهم على احر من الجمر ينتظرون عودته الى ارض الوطن,مرددين ان الناصري وصل ساحة الحبوبي, فذهبت الى المطبخ وتناولت الة حادة- الساطور, فخرجت الى الشارع رافعا شعار يسقط صدام حسين بصوت عال,انتبه الناس وارجعوني الى البيت, فقد كانت ساحة الحبوبي تعج حينها برجال الامن والشرطة والمخابرات والانضباط العسكري ,ثم قامت ثلة مجاهدة بعد ان سلمت بعض الرمانات اليدوية لهم منطلقة من حسينية اهل البيت المجاورة لبيته بضرب مركز المدينة فسقطت بساعات,من بيته انطلقت شرارة مركز المدينة ,مع انه كان رحمه الله غائب عنه,فبقيت حسرة في قبله تلك الذكرى,اذ كان يقول لو سمح لنا وللمعارضة بالنزول لتغيرت المعادلة وانقلبت موازين الثورة,وبقيت المحافظة بيد الثوار لشهرين تقريبا من اذار 1991)...
الشيخ الناصري مدرسة في العلم والجهاد والاعتدال الديني,واذكر انه جاء مع سماحة اية الله المفكر الشيخ الاصفي(رحمهم الله)الى كردستان العراق لايقاف النزاع الدموي بين الاحزاب الكردية والحركة الاسلامية الكردستانية(الرابطة الاسلامية),فاقام الاتحاد الاسلامي لطلبة وشباب العراق فرع كردستان القريب من حزب الدعوة الاسلامية(واتحاد الطلبة الاحرار التابع للمؤتمر الوطني العراقي الموحد)
ندوة للطلبة العرب هناك(1993-1994)فكان السؤال"نحن طلبة مسلمين نسكن في منطقة عينكاوة المسيحية في اربيل, هل يجوز الاكل وشراء الخبز وغيره..قال كل شيء حلال لامانع ان تأكلوا منهم,بما فيه اللحم الحلال ,مذكرا بالاية الكريمة ...ولقد كرمنا بني ادم... سورة الاسراء اية70),
كان يقول رحمه الله تعلمت من والدي ان لا اذكر مساوئ الاخرين"حيث كان يقول له (قدس سره) بدلا من ان يذكر الشخص مساوئ الاخرين ,عليه ان يعمل افضل منه, فعملك يرفعك ويكشف اخطاء الاخرين"
الشيخ الذي كان دائم التذكر بوثيقة العهد من الامام علي ع لمالك الاشتر معتبرا انها مدرسة في فهم العلاقة بين الحاكم والرعية(كتاب مع الامام علي في عهده لمالك الاشتر محمد باقر الناصري),لاتوجد عنده خطوط حمر في التعامل مع الاخرين,سواء كانت من الاحزاب والحركات او الشخصيات السياسية او الاسلامية او العلمانية,
وهو الذي قال لي بعد 2003 ان قسم من الحركات والشخصيات الاسلامية المعارضة كانت قبل سقوط النظام البائد تعمل نظريا ,وبعد السقوط سقط قسم منهم عمليا في الاختبار,وقد رأيت الالم والحزن ينطق منه قبل القول"اني اشعر انني في سجن لقلة المؤمنين ",كيف لا وهو الذي واجه من قبل بعض الانتهازيين والمنافقين الذين كانوا ينتقصون من اهالي الناصرية في ايران(غايتهم التقليل من شعبية الشيخ المجاهد الناصري رحمه الله وابناء المدينة ,الذين كانوا الوحيدين من بين ابناء المعارضة الذين تذكرعملياتهم الجهادية في الداخل انطلاقا من الاهوار,
صحيفة الجهاد التابعة لحزب الدعوة في طهران,حيث انتبه الناس الى ان البعثي الذي يقتل في الناصرية ,تضاف له عبارة بعثي خبيث,بينما لاتذكر تلك العبارة مع البعثيين المجرمين في بقية المحافظات),فكانت محاضرته الرائعة في مسجد وحسينية الشهيد الصدر في قم ,حملت عنوان الناصرية مدينة الجهاد,تلك المدينة التي فجر عدد من ابناءها المعارضين القادمين من الاهوار والحدود الايرانية مع مدينة الناصرية والكوت والبصرة انتفاضة 15 شعبان,كانت وستبقى مدينة الجهاد والنضال والثقافة الادب..
سيبقى ارث الناصري الجهادي والعلمي الزاخر(الف كتب عديدة اهمها الكتب في تفسير القران,التفسير الموضوعي المقارن للقران الكريم,مختصر مجمع البيان في تفسير القران,وبقية المؤلفات)مدرسة للجهاد والصوت المعتدل,يستلهم منها الدروس والعبر,في الثبات على المواقف المبدئية, واتباع النهج الاسلامي الاصيل في التعامل مع الجميع دون استثناء,مثلما خرجت جميع الطوائف والاديان بما فيهم الطائفة الصابئة في تشييع والده المجتهد الشيخ عباس الى مثواه الاخير اواسط القرن الماضي,اجمعت الطوائف والاثنيات والتوجهات على ان الشيخ الناصري يمثل مدرسة التسامح الوطني,والصوت الجامع قبل وبعد 2003 لابناء الوطن الواحد..
رحم الله الشيخ المجاهد اية الله محمد باقر الناصري, والهم ذريته ومحبيه الصبر والسلوان على هذا المصاب الجلل,وزاد فيهم الايمان والقوة والصلابة بالاستمرار لاستكمال نهج طريق ذات الشوكة,رفعة وخلافة وخدمة للمدرسة المحمدية العلوية الاصيلة,من اجل اعلاء كلمة لا اله الا الله محمد رسول الله ص...
نتمنى ان يرى الشعب العراقي قريبا نشر مذكرات الشيخ الناصري ,الذي ذكر قبل وفاته رحمه الله انه قد دون فيها كل التفاصيل الاجتماعية والدينية والسياسية منذ نعومة اظفاره حتى اخر يوم توقفت فيه يداه الكريمتان عن الكتابة بسبب المرض,لتكون وثيقة تاريخية مهمة لما تحمله من احداث ومواقف ومراحل جهادية ودعوية طويلة
مهدي الصافي