رغم انه ليس بمقدور مقال بهذا الحجم الصغير وقلمي العاجز من تبيين الصورة النيرة والمشرقة لمعجزة الامامة السماوية وبرهانها القاطع، إلا أنه من باب ما لا يدرك كله ولا يترك جله أرتأيت أن أكتب هذه السطور عسى ولعل بإمكاني أن أوفي ببعض الشيء القليل جداً في هذا المجال والتسليط على بعض الجوانب القيمة من الحياة الكريمة لتاسع أنوار الهداية والامامة الامام محمد بن علي الجواد عليهما السلام، ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى إستشهاده الأليمة والفاجعة.
لقد ظلم التأريخ والمؤرخون على طول الزمن شأنه شأن عمه الامام الحسن بن علي المجتبى، وجده الامام محمد الباقر وكذا حفيده الامام الحسن العسكري عليهم السلام أجمعين أكثر من سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين لم ينصفهم التأريخ كونه كتب بأقلام أموية وعباسية سلفية إجرامية تكن لأهل بيت الرسالة والنبوة والامامة حقداً دفيناً تعود جذوره لعصر الجاهلية والقبلية العربية الرافضة للاسلام والرسالة المحمدية الاصيلة.
بلغت رسالة هداية الأمة الى الامام الجواد (ع) وهو لا يزال صبياً ليدلل أن الامامة كالنبوة مهمة إلهية تعطى لمن هو أهل لها ولاريب في أن يكون الامام تسلم مهام الامامة في الصبى كما حدث في النبوة للنبي عيسى عليه السلام ونبينا يحيى (عليه السلام) ايضاً كونها رسالة سماوية ومنصب الهي حيث يقول القرآن الكريم "وآتيناه الحكم صبيا" - سورة مريم (12)، وكذلك علاقاته (ع) بأصحابه وشيعته، وكيفية تعامله معهم، لاسيما فيما يرتبط بتنظيم أمورهم، ومعالجته لمشاكلهم فيما بينهم، فيما يرتبط بالمهمات الموكلة إليهم الى جانب مقارعته وتصديه لظلم بني العباس على عهد سلطة "المأمون" و"المعتصم" الظالمة.
كما أن ظاهرة تولّي شخص للاِمامة أي زعامة الامة الاسلامية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً وهو لا يزيد على سبع سنين، هي ظاهرة ظهرت لاَول مرة في حياة الاَئمة على عهد الاِمام الجواد (عليه السلام) كما اشار الى اهميتها الفيلسوف الكبير الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سرّه في 29 ذي القعدة سنة 1388 للهجرة - لم تنشر- توجد ضمن مستندات ووثائق موسوعة الشهيد الصدر حيث قال "أنّها وحدها كافية للإقتناع بحقانية هذا الخط الذي كان يمثله الامام الجواد عليه السلام.. إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الامامة الواقعية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويتولّى زعامة الطائفة في كلِّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية؟".
التاريخ كتب بأقلام مأجورة واستأصل ظلم أهل بيت النبوة والأمامة عليهم السلام لتبقى الحقيقة خافية على الامة الاسلامية ومنها الامام محمد بن علي الجواد عليهما السلام، حتى أن بعض مفكريها وعقلائها رأوا عكس ذلك وأستخفوا بهذه الشخصية الألهية الفذة وظلموها ولم ينقلوا عنها شيئا فيما كان للامام الجواد (ع) دور ريادي في إدارة شؤون الأمة وأحكامها مما أربك سلاطين بني العباس وعملوا كل ما في جهدهم على إخماد هذا النور وتآمروا مراراً لسفك دمه الطاهر حتى تم دس السم اليه عبر زوجته "أم الفضل" بنت عم الخليفة العباسي "المعتصم" وبمؤامرة دبرها الأخير خوفاً من نفوذه الواسع بين المسلمين حيث كان الامام الجواد (عليه السلام) في عنفوان الشباب ولم يتعد عمره الشريف الخمس وعشرين سنة ، وشهرين، وثمانية عشر يوماً.
الامامة في نظر أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم هي ذلك الإمتداد الحي لمسيرة النبوة، في قيادتها الالهية للأمة نحو هدفها الأسمى. كما انها المعين الذي لا ينضب للفكر الاسلامي الأصيل، الذي لابد وأن يمد الأمة بالرأي، وبالحياة، والذي يستمد عذوبته وصفائه من القرآن الكريم والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مباشرة.. وهي المصدر الصافي والأصيل، والرصيد الالهي الكافي للعلوم والمعارف اللازمة لتغذية حركة الحياة والفكر لدى المجتمع الاسلامي والبشري برمته، وتزويده بما لابد له منه في مسيرته التكاملية الرائدة، نحو هدفه المنشود.
الفترة الزمنية التي عاشها الامام الجواد (ع) تعتبر فترة زمنية متميزة سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً؛ حيث تلك السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد والده الامام الرضا (عليه السلام) على يد "المأمون" العباسي، المشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً؛ للسياسة التي اتخذها "المأمون" ودوافعه الخبيثة في تقريب الامام الجواد (عليه السلام) وإنزاله تلك المنزلة منه، وهذا الترقب والحذر راجع لعدة أمور لعلّ من أهمها ما يوجزه المؤرخون بأنه يصب في دهاء ومكر المأمون العباسي وحقده الدفين لآهل البيت العلوي حيث أن "المأمون"، ولأجل رفع أصابع الإتّهام عنه بإغتيال الامام الرضا عليه السلام، أراد أن يثبت ظاهرياً للعوام والخواص حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، من خلال بقائه على ولاء وحب البيت العلوي؛ لذلك أظهر اهتماماً زائداً مزيفاً، وتكريماً متميزاً للاِمام الجواد عليه السلام فأقدم على تزويجه إياه من أبنته زينب المكناة بـ"أم الفضل"، وإسكانه عنوة قصور السلطنة، وأمر ولاة الاَقاليم والخطباء بإظهار فضائل الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات خديعة .
التاريخ يحدثنا عن تدبر الامام الجواد (ع) ضد هذه المؤامرة العباسية الخبيثة حيث انصرف (ع) الى مدينة جده رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد زواجه بـ"أمّ الفضل" محبطاً بذلك مكر "المأمون" وفوّت عليه تدبيره في محاولة إحتوائه وفصله عن شيعته وجماهير محبيه (كما ذكره المسعودي)، وأنّه بقي في المدينة يتعاهد أمور شيعته حتى إستدعاه "المعتصم العباسي" ـ خلف المأمون ـ في أول سنة 220 هـ، وأجبره على الإقامة في بغداد حتى استُشهِد في آخر ذي القعدة من تلك السنة.
سعى الامام محمد الجواد (عليه السلام) طيلة حياته القصيرة الزاهرة في حفظ وتقوية إرتباطه بشيعته عن طريق نصب الوكلاء وإرسال الموفدين، وأمر الوكلاء والموفدين بالعمل بما من شأنه تقوية وحدة المسلمين خاصة الشيعة والإحتراز من التفرقة. ونجد أنه عليه السلام قد بعث وكلاء الى المناطق البعيدة مثل الأهواز، وهمدان، وسيستان وبلوجستان، وقم والري(في ايران)، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة.
أجاز الامام الجواد عليه السلام لبعض شيعته النفوذ في مراكز الحكومة وتسنّمَ المناصب المهمة، من أجل حماية إخوانهم الشيعة، فصرنا نجد أفراداً من أمثال "محمّد بن إسماعيل بن بُزَيع" و"أحمد بن حمزة القمّي" يحتلّون مناصب رفيعة في الدولة، وصرنا نجد أنّ "نوح بن درّاج" يصبح قاضيَ بغداد ثمّ قاضي الكوفة (كما رواه ابن ابي الحديد المعتزلي نقلاً عن كبير الطالبيين).
ساهم صلوات الله عليه خلال مدة إمامته التي لم تدم أكثر من سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وحفظ تراثها، وقد عدّ الشيخ الطوسي(رضي الله عنه) من تلامذة الامام الجواد (ع) ورواته والذين تتلمذوا عليه نحو مائة من الثقات، منهم إمرأتان، صنفوا في مختلف العلوم والمعارف الاسلامية وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعضاً من اصحابه (عليه السلام)، الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم:
الف ـ أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنف كتباً كثيرة بلغت أكثر من تسعين كتاباً.
ب ـ علي بن مهزيار الأهوازي: له اكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً.
ج ـ صفوان بن يحيى: له كتب كثيرة، وله مسائل عن الكاظم (عليه السلام).
د ـ أحمد بن محمد بن أبي نصر: كان عظيم المنزلة، له كتاب الجامع، وكتاب النوادر.