عشرون عاما، من العمل المكثف في عالم المرأة.. أتحسس خوفها وقلقها، وأترقب معها أحلامها ورؤاها، أشاركها تفاصيل العنف الموجه ضدها بكل دقائقه المعقدة والشائكة، مئات القصص والحكايا التي رُويت لي، وربما عشت تفاصيل بعضها معهن، مئات النساء اللواتي ذرفن دموعهن في أحضاني، وربما لم تكن لهن دموع!!
كميات هائلة من الوجع يتسلل تحت جلدي ليسكن بصمت في تلك الخلايا غير المرئية المختزنة مجسات تحسس الألم، وفي زوايا تلك الخلايا سكن وجعهن!!
وعلى إختلاف أنواع العنف، وأشكاله وتفاصيله، كنت أبحث عن شيء مشترك، يوحد ذلك الوجع، شيء مشترك لجميع النساء.. على اختلاف معاناتهن ووجعهن والظلم الموجه إليهن.. لابد أن يكون هناك شيء مشترك في كل هذا الوجع وهذا العنف..
كتبتُ (أنثى ليست للبيع)، لعلي أ ُسمع الأناث جميعهن كيف يتم بيعهن تحت مسميات مختلفة.. حاولت أن أضع معالجات لإيقاف ذلك البيع.
وكتبت العديد من المقالات والروايات والكتب لأجل أن أفهم جيدا تفاصيل وجعهن، وأجعل لذلك الوجع لسانا وصوتا.
وكلما تحدتث معي أحداهن، أدرك جيدا.. أن معاناتها تشبه الآخريات وان اختلفت تفاصيلها من عنف جسدي الى نفسي الى اقتصادي الى قانوني الى حرمان من فرص وغيرها.. جميعهن يشتركن في نقطة واحدة.
كنت استشعرها، ولم أجد لها مفردة تجسدها.. حتى قبل حين.
وجدتها، ما تريده حواء من آدمها، سواء كان أبا أو أخا أو زوجا أو أيّ عنوان آخر.
تفصيلة صغيرة في حياتها، مفقودة.. ضائعة، فقدانها وضياعها هو السبب في كل ما تعانيه.
الحماية، نعم.. الحماية!!
الطفلة الصغيرة، تبحث عن ضآلتها في الحماية بين ذراعي أبيها، وفي حنايا قلبه.. عندما تشعر بالآمان وهو معها.. تشعر بأنها أميرة وان الدنيا مملكتها، فلا تخاف ولا تقلق ولا يتعثر لسانها ولا قلبها!! ولكن هذه الطفلة الصغيرة تعيش الخوف دوما، الخوف من غضب أبيها، الخوف من قسوته، الخوف من حرمانها من التعليم، الخوف من التزويج المبكر، الخوف من سطوة الذكورة بكل تفاصيلها، الخوف من وحش أسمه (العيب) يرافقها في كل تفاصيل حياتها.
وعندما تكبر، تبحث عن ضآلتها لدى أخيها.. فلا تجدها كما فقدتها عند الأب، وتظل تنتظر الفارس الأبيض يأتيها بفارس أحلامها لينقلها الى عالم الأحلام الوردي.
وهناك.. تبحث عن ضآلتها أيضا، عن الشعور بحماية هذا الرجل لها، حماية قلبها، حماية احلامها، حماية حاضرها ومستقبلها، فلا تجد كل هذا.
غالبية النساء تكمن قضيتهن في البحث عن هذه الحماية، عن الاستشعار بها.. عندما تكون المرأة بحاجة، نعم بحاجة الى الحبّ، الى الاحترام، الى المودة، الى السكينة، عندما تقع في مشكلة ما، عندما يصفعها الزمن ذات مرة.. تحتاج الى تلك الحماية.
حبّ آدم لحواء (سواء كانت أبنة أو أخت أو أمّ أو زوجة)، هو حماية!! احترامه لها هو حماية!! تقديره لها هو حماية!! الكلمة الطيبة هي حماية!! المشاعر الدافئة هي حماية!!
إعطائها حقها في التعليم وإختيار شريك الحياة وفي العمل والتعبير عن رأيها وذاتها، حماية لها!!
ما تريده حواء هو أن تستشعر هذه الحماية في تفاصيل حياتها منذ نعومة أظافرها حتى الشيخوخة.
لذلك ننشغل الآن بالبرامج التي تستهدف الحكومات بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، على موضوعة (الحماية)، أن تكون هناك بيئة آمنة حامية للنساء، بيئة تشريعية، بيئة قانونية، بيئة إجتماعية، بيئة عمل توفر الحماية الكافية للنساء.. الحماية بكل تفاصيلها، الحماية التي تعني أن المرأة تستشعر الأمان والراحة في المكان الذي تتواجد فيه.
فعندما لا تشعر المرأة بالأمان، فهذا مؤشر لإنعدام الحماية.
فأن لم تشعر حواء بالأمان مع آدم فهذا يعني بأنه لم يُوفر لها البيئة الحامية. وهذا ينطبق على الحياة الخاصة داخل الاسرة والحياة العامة في بيئات العمل والمجتمع الكبير.
ومن يسأل عن ماذا يعني بشعور حواء بالأمان وربطه بالحماية، فلينظر الى تصاعد أرقام الطلاق في المحاكم، والى ارتفاع معدل حالات الانتحار، والى التفكك الاسري والى تنمر الاطفال واليافعين والشباب، والى الفجوة الكبيرة بين الفتيات وأهلهن.. والى قضايا إجتماعية كثيرة نسمع عنها يوميا ونعيش تفاصيل بعضها.
لذلك أن كنا نسعى الى التقليل من العنف ضد النساء والفتيات، فلنعمم مفهوم الحماية في بيوتنا، وفي أمكان العمل، وفي التشريعات، وفي الإجراءات الادارية في مؤسساتنا، لنشعر حواء بأنها بأمان!
حواء كائن رقيق، حساس، هي عالم عجيب.. لا يفهم سرّه إلا أولوا الالباب!!