الأسطورة والرمزية التصويرية في شعر السياب ‎/عبدالجبارنوري

الاثنين - 27/04/2020 - 18:13

 


‎أنظر إلى السياب كيف يملي على شعرهِ الرمزية التصويرية بالأستعانة ب( الميثيولوجية )* والأشارات التأريخية ، وهذا مقطع من قصيدته ( أنشودة المطر ) التي ترقى لأيقونة بارزة في الأرث الثقافي العراقي والعربي ، وعليك أن تكتشف تلك المقاربات الفكرية في سير السرد النصي في شعر السياب وأليوت وأبي تمام :
‎أنشودة المطر -----
‎عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر 
‎أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
‎عيناك حين تبسمان تورق الكروم 
‎وترقص الأضواء كالأقمار في نهرْ
‎أتعلمين أي مزنٍ يبعثُ المطر 
‎وكيف يشعرُ الوحيد فيهِ بالضياع 
‎بلا أنتهاء كالدم المراق ، كالجياع
‎كالحب ، كالأطفال ، كالموتى هو المطر 
‎فهو الشاعر العراقي الكبير " بدرشاكر السيّاب " 1926-1964 ، وُلِد بدر شاكر السياب في قرية جيكور تابعة لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة ، يعتبر السياب أحد مؤسسي الشعر الحرفي الأدب العرب ، وكان لجمال الطبيعة في قريتهِ جيكور الخضراء الوارفة الظلال والمفعمة بالأزاهير والأثمار وغابات النخيل الباسقات ورقرقة الجداول التي تمرُ منها لتصب في شط العرب ، كان هذا الجو الشاعري الخلاب أحد حوافز طاقات السياب الشعرية ، وخلال مزاجاتهِ المتغيّرةِ في تغيّر المكان من جيكور إلى بغداد وإلى الكويت ثم ألى البصرة ، والصدمة النفسية في وفاة أمهِ وهو في عمر ستة سنوات ، ولم يصل لنهاية تجربة حب ناجعة مع حواءٍ ، أضافة ألى قراراته السياسية في تغيير الأعتقاد الفكري ، كل ذلك أثرت في تشكيل الذات عند الشاعر ، وأباح عنها بأعظم القصائد رصانة ودقة وحقيقة وواقعية أبهرت العالم في أربعينيات القرن الماضي ، في أمضاء كتابه المشهور " أنشودة مطر " التي تضمُ مجموعة أبيات في قصيدة غريب على الخليج ، أزهار ذابلة عام 1947 ، أساطير وحفار القبور 1952 ، المومس العمياء 1954 ، منزل الأقنان 1963 ، أزهار وأساطير وشناشيل أبنة الجلبي 1964 ، وللعلم كان صدور ديوان أنشودة المطر عن دار مجلة شعر بيروت في العام 1960 بيد أن القصيدة كتبها عام 1954 في الكويت ، وقصائد أخرى تعتبر من ألمع الدرر في الشعر العربي الحديث منها نهر الموت وجيكور والمدينة وبور سعيد ، وكان قدرهُ أن يموت مبكراً بعمر 38 سنة بمرضٍ لعين تصلب عصبي في العمود الفقري ، وسُدل عليه ستار النسيان والأهمال في مرضه ومماته من الحكومات العراقية المتتابعة ومن بعض جمهوروأدباء حساد لثورته الأدبية الحداثوية وأنجازمدوناته الرائعة والمتألقة ، وكتبت بعض وسائل الأعلام المنصفين ( أن السياب لا ينازع في عراقيته الصميمة والخالصة مع أنهُ لم يأخذ شيئاً من من تكريم وتقييم .
‎أسلوب السياب الشعري ومدى تأثره ب(أليوت وأبي تمام ) ، وقبل هذا أقول أن للسياب الأثرالأهم للتحوّلْ النوعي في خارطة الشعر العربي الحديث المعاصر وفي تيار الحركة الحداثوية الشعرية في تضاريسها وأدوارها :
‎-هو رائد الشعر الحر ، بدأ بكتابة الشعر الكلاسيكي منتقلا إلى الشعر الحر لشعوره أن القديم لا يحقق مساعيه في أرهاصاته الداخلية في أعلان الحرب على الحرمان والفقر والموت ، ولآنّهُ رأى في فلسفة الحياة مختصر الكلام ( الصراع بين الفناء والوجود ) ، وأني أرى أنهُ ليس سوداوياً كما يزعم بعض النقاد لأنهُ بدأ بقصائد غلبت عليها الرومانسية متأثراً بطبيعة جيكور الخلابة ومفاهيم الحب وهو يقول في هذا المجال : 
‎أشاهدت يا غاب رقص الضياء ---- على قطرةٍ بين أهدابها ؟
‎ترى أهي تبكي بدمع السماء ---- أساها وأحزان أترابها
‎وأفراح كل العصافير فيها --- وكل الفراشات في غابها 
‎-السياب أكثر رغبة في توظيف الأسطورة والرمز في النسيج الشعري للواقعية الجديدة ، وبانت جلية في " أنشودة المطر " التي وظّف فيها أسطورة عشتار ، يقول :
‎عيناك غابتا نخيل ساعة السحر 
‎أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر 
‎عيناك حين تبسمان تورق الكروم 
‎وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
‎وعندما نقرأ للشاعر الأنكليزي ( أليوت )هو توماس ستيرنز 1888 -1965 هو شاعر وناقد ومسرحي وفيلسوف أنكليزي أظهر في نصيتهِ الشعرية الرمزية والأسطورية ببعضٍ من الغموض والصعوبة ، ويعكس التهاتف النفسي والحضاري لدى الأنسان الأوربي ، وتوضحت فلسفتهُ الشعرية في قصيدته المشهورة ( الأرض اليباب ) The Wasta Land فالشعر الجيد في نظر أليوت هو قد يبلغ القلب قبل تمام الفهم ، فهو من رواد الشعر الحر الأنكليزي ، وقد تأثر به عدد كبير من الأدباء والشعراء والنقاد العرب ، منهم على سبيل المثال لا الحصر : بدر شاكرؤ السياب ونازك الملائكة ولميعه عباس عماره ولويس عوض وصلاح عبد الصبور وجبرا خليل جبرا وأدةنيس ويوسف الخال ومحمود درويش ، فأصبحت القصيدة المعاصرة أكثر وأغزرها في تناول الأنسان المعاصر في تراثهِ وحضارتهِ وأحداثهِ التأريخية وقضاياه الآنية : هنا مفترق الحديث حيث يأخذ الشاعر الأوربي بأتجاه حضارته الأوربية كاليونانية والرومانية والآخر في فضاءات الأدب العربي يتحه نحو جذوره التأريخية في بابل ووادي النيل ، فشاعرنا السياب في الأربعينات كان واضحاً بمقارباتٍ نصية شعرية بما لدى( أليوت) من تركيز على التراث وأستخدام الأسطورة والرمز والأيحاء والأشارة التظمينية .
‎-وصراعات تغيرات المكان وأزماته الفكرية وشظف العيش وأفتقاده لحب أمرأة ضاعفت أشكالاته وتحولت إلى أزمة مزمنة نفّس عنها بقصيدة حنين لجيكور تعكس أستلابات المنفى والغربة والضبابية واليأس وبعضٍ من الشجون والأسى، ولكنه على العموم يطفح بالحنان والرقة ويتجه بها ألى ( الرومانطيقية )* تلك النزعة الأدبية السائدة في الأدب الغربي الأوربي وهذه بعض أبياتها:
‎أه جيكور جيكور ماللضحى كالأصيل يسحب النور مثل الجناح الكليل 
‎جيكور ديوان شعري ، موعد بين ألواح نعشي وقبري
‎وفي قصيدة أخرى يقول : 
‎لا تزيديه لوعة فهو بلقاك 
‎لينسى لديك بعض أكتئابه 
‎قربي مقلتيكي من قلبي الذاوي 
‎تري في الشحوب سرّ أنتحابهِ . وأخرى :
‎ليت السفائن لا تقاضي راكبها عن سفار --- 
‎أو ليت الأرض كالأفق العريض بلا بحار 
‎متى أعود ؟ متى أعود؟ 
‎وا حسرتاه --- لن أعود إلى العراق ! .
‎-السياب رائد الحداثة الشعرية حيث لا يختلف أثنان في مدى شاعريته وجدارته في الأبداع الشعري بتعدد المستويات والمحاور ، وكما تقول عنهُ الدكتوره ناديه هناوي في المنجز النقدي حول شعر السياب : ( --- وكأنهُ متحف لكل ما عرفهُ النقد من مذاهب وأتجاهات أبتداءاً من التأريخية وأنتهاءاً بالبنيوية )أنتهى ، حتى أصبح المنجز النقدي عن شعر السياب حالة نموذجية عصية الأستنساخ أطرتْ شخصنة السياب بالذات ويمكن أن يصطلح عليه أسم ( نقد النقد ) أو ما بعد النقد ، وان رأي الناقد العربي أسعد رزوقي في كتابه الموسوم ( الأسطورة في الشعر العربي المعاصر )الصادر عن دار مجلة الشعر اللبنانية : هو أنهُ يمكن الجمع بين خمسة من الشعراء العرب هم جبرا أبراهيم جبرا وأدونيس ، وخليل حاوي ، ويوسف الخال وشاعرنا بدر شاكر السياب ، وأني أثني على رأي الناقد ، لأن الأسطورة والرمزية تشكلان محور البناء النصي السردي لكينونة وصيرورة القصيدة السيابية والتي جاءت واضحة ومتماثلة مع الشاعر أليوت في توظيفه للأسطورة .
‎وهذه بعض أبيات من قصيدة ( الأرض اليباب ) لأليوت نرى واضحاً أستعماله تلك الأدوات الأدبية في الرمز والأسطورة وفوبيا المجهول الذي يسيرهُ الموت فتبدو متطابقة مع النصية الشعرية عند السياب :
‎دفن الموتى
‎نيسان أقسى الشهور ، 
‎يتناسل الليلك في البريّة الميّتة ، 
‎وتمتزج الرغبة في الذكرى ، 
‎تهتاج الجذور الشاحبة عطر الربيع ، 
‎أية جذورٍ متشبثة هذه ؟ أية أغصان ؟ 
‎تنبتْ من هذه النفاية الحجرية ، 
‎أخافُ من الموت بالماء ، 
‎أرى حشوداً من البشر يسيرون في دائرة .
‎-وأن بدر شاكر السياب متأثر بالشاعر "أبي تمام" في نصيّة المفردات الشعرية بأستعمال الرمزية والأسطورة ، وهذه بعض من بائية أبي تمام المشهورة ، الذي ربما تأثر بها السياب وهي قصيدة عموريا بالحقيقة هي ملحمة شعرية أكبر من أن تكون قصيدة :
‎السيفُ أصدقُ أنباءاً من الكتبِ ---في حدهِ الحد بين الجد واللعبِ 
‎بيضُ الصفائح لا سود الصفائح --- متونهن جلاء الشك والريب
‎وأشعر أبو تمام في الحنين للوطن وقال
‎نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى 
‎ما الحبُ ألا للحبيب الأولِ
‎كم منزلٍ في الأرض يألفهُ الفتى
‎وحنينهُ أبداً لأول منزلِ .
‎أخيرا/ ربما قد تقارب الشاعر بدر شاكر السياب مع أليوت وأبي تمام في الرمز والاسطورة والحنين للوطن ، بيد أن السياب تمكن من رسم شخصنته الشعرية المميزة وخاصة بأقتحامه للمنجز الأدبي العربي بنقلة نوعية من الرومانسية القديمة إلى عالم الشعر (الحر) الذي يلبي طموحات الأنسان في آماله وتأملاته الحياتية فالمجد لشاعر جيكور المجدد الحداثوي " بدر شاكر السياب " . 
‎الهوامش والمصادر
‎-الدكتورة ناديا هناوي ،كتابها المنجز النقدي حول شعر السياب
‎- أسعد رزوقي كتابه : الأسطورة في الشعر العربي المعاصر 
‎- عبد الواحد لؤلؤة –اليوت أرض اليباب 1980 
‎- عبدالجبارداود البصري –بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر 
‎- ديوان أبو تمام – الكامل
‎*الرومانطيقية : العاطفة قبل العقل
‎*الميثيولوجية: تعتمد الأسطورة والفنتازيا الخيالية في التأريخ القديم