ومن هنا بدأ الرسول الأعظم بتأسيس دولة الإسلام والتي عاصمتها هي المدينة المنورة وتثبيت أركان هذه الدولة الفتية والتي تقوم على العدل والمساواة وتعايش الجميع فيها بغض النظر عن الدين أو اللون أو العرق. وقد عقد رسول الله المعاهدة مع يهود المدينة بعد هجرته إليها مباشرة وفي أوائل أيامه بها؛ مما يدل دلالة قاطعة على فكره التعايش ورغبة رسول الله في مسالمة غير المسلمين، وأهم وأول بند جاء في هذه المعاهدة : أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم(1). والتي فيها الكثير من البنود التي توضح التعايش السلمي مع اليهود، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضوع أن هذه الوثيقة لم تذكر يهود بني قينقاع ولا يهود بني النضير ولا يهود بني قريظة(2). وتثبت هذه الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشكِّ ما كانت عليه الدولة الإسلامية وهي في هذه المرحلة الأولى من البناء والتأسيس من حرية تامَّة، وإفساح للغير للمشاركة والمعايشة القائمة على احترام الآخر، كما يظهر ذلك من خلال القراءة المتأنية لبنود هذه الوثيقة أنها تقبل الآخر، وتشرع القوانين من أجله، ولأجل ما ينظِّم حياته بين أفراد المجتمع المسلم، ويحفظ له حقوقه ويرد عنه الظلم إن وقع عليه.
وحتى منافقي كانوا يحكمون رسول العدل والإنسانية فيما شجر بينهم ولهذا في محكم كتابه بقوله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(3)لمعرفتهم بمدى صدقة وأمانة هذا النبي العظيم، واليهود طاموا يحكموه في قضاياهم لانهم يعرفون ان الرسول الاعظم هو نبي العدل والرحمة والمساواة فكان يقضي بالحق فيما بينهم.
ومن اهم ما قام به نبينا الأكرم بعد صاح الحديبية هو ارسال الرسائل الى الملوك والحكام حيث كتب الرسول الكريم إلى النجاشي في الحبشة، وهرقل عظيم الروم، وكسرى ملك فارس، والمنذر بن ساوى أمير البحرين، وهوذه الحنفي أمير اليمامة، وملك عمان والحارث الحميري حاكم اليمن والحارث الغساني أمير الغساسنة. وهذا من اجل توطيد حكم الدولة الإسلامية والتعريف بأنه تم نشوء دولة فتية إسلامية لتصبح فيما بعد ذلك دولة عظيمة وليصبح الناس مسلمين يدخلون في دين الله افواجاً ومن كل اصقاع العالم ولترتفع راية الإسلام في جميع بقاع المعمورة لأنه الدين الحق والذي هو الأحق الذي يجب ان يتبع والذي لا يفرق بين عربي وأعجمي واسود وابيض لأنه كان يرفع العدل والمساواة شعاره الأزلي ولهذا جاءت الآية الكريمة التي تقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4). لتبين مدى عالمية الدين الإسلامي ولتكون هذه القرية الصغيرة المدينة هي مدينة يدوم ذكرها على مدى التاريخ ولتكون اول محطة لبناء الدولة الإسلامية الجديدة.
أما تلك المدن التي تعمل الخبائث والاجرام فقد اعتبرها قرى وأزالها من الوجود فهذه قرية لوط الذين كانوا السوء وهي كانت مدينة كبيرة وهي قرية سدوم ولكن كثر فيها الفساد وكذلك مدينة البتراء وحتى الحضارة الفرعونية والبابلية والآشورية كان يكثر فيها الفساد والظلم والقهر فكان جواب الله سبحانه وتعالى ان دمر هذه القرى ولم يبق لها باقية، ليصفها القرآن بأنها وأنها ظلمت وعتت عن أمر ربها وهو مصداق لقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا* فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا }(5).
ولو تتبعنا التاريخ نجد ان كل الامبراطوريات التي قامت قد انحسرت بل تم تدميرها شر تدمير وبضمنهم دولة بني أمية وبنو العباس. وحتى العثمانية وغيرها لكثرة الفساد وماجرى من فساد ومجون وقهر وظلم وليبقى الإسلام باقي بل ويتسع يوماً بعد يوم ودخول الناس فيه ويتسع يومأً بعد يوم بالرغم من حملات التشويه التي يقوم بها الصهاينة واليهود ومعهم المسيحيين التبشيرين ومن لف لفهم من اجل أطفاء جذوة الدين الإسلامي الحنيف وهذا ماعبر القرآن الكريم بقوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(6).
وليبقى الوجه الناصع لديننا الحنيف وهو ينطق بالعدل والمساواة فهذا الفيلسوف ليو تولستوي يصف الإسلام فيقول (وجوهر هذه الديانة يتلخص في أن لا إله إلا الله وهو واحد أحد، ولا يجوز عبادة أرباب كثيرة، وأن الله رحيم عادل، ومصير الإنسان النهائي يتوقف على الإنسان وحده، فإذا سار على تعاليم الله فسيحصل على الجزاء، أما إذا خالف شريعة الله فسينال العقاب ) ويصف النبي محمد(ص) (النبي محمد قائلا ًهو مؤسس دين ونبي الإسلام الذي يدين به أكثر من مائتي مليون إنسان وقام بعمل عظيم بهدايته لوثنيين قضوا حياتهم في الحروب وسفك الدماء، فأنار أبصارهم بنور الإيمان وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله )، ويضيف(و مما لا ريب فيه أن النبي محمداً من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة و يكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق و جعلها تجنح للسكينة و السلام و تفضل عيشة الزهد و منعها من سفك الدماء و تقديم الضحايا البشرية و فتح لها طريق الرقي و المدنية و هو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة و رجل مثل هذا جدير بالإحترام و الإكرام)(7).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.