ساد العالم الاسلامي خاصة تلك المناطق التي يقطنها أهل البيت وشيعتهم آنذاك كالمدينة في الحجاز والعراق بعد فاجعة كربلاء الدموية سنة 61 للهجرة جو من الرعب والارهاب التكفيري الدموي، وضعفت الحركة المعادية للسلطة الأموية الفاجرة الفاسدة الفاسقة وأُصيبت بنوع من الفتور والذهول وأختل وتلاشى تنظيمها لما شهدته من تصفيات جسدية طالت حتى الأطفال، حتى قال عنها الامام علي بن الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهم السلام: " ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يُحبّنا "- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (4: 140)، والغارات للثقفي (ص 573) وبحار الأنوار (46 / 143)
الحالة ذاتها تتكرر اليوم في عالمنا الاسلامي من أقصاه الى أقصاه حيث الارهاب التكفيري الأموي عاد بظلاله يسود الأمة ويزعزع أمنها واستقرارها ويفتك بصغيرها وكبيرها دون أدنى رحمة يمزق الأجساد ويأكل الأكباد ويفخخ ويفجر ويسرق وينهب ويستبيح الأعراض وينتهك المقدسات دون رحمة أو شفقة، مصرّين على عودة البشرية الى عهد القبلية الجاهلية وإنكار رسالة الرحمة والرأفة والمودة والمحبة لخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يدفعوا شعوب العالم نحو "الاسلاموفوبيا" رهاباً من رسالة التسامح والتعايش التي تمسك بها أحرار العالم ويتخذونها نبراساً لهم فأوجس خيفةُ في قلوب المنافقين والفاسقين من الصهاينة وعربان السلطة الموروثية فدفعوا بحاخاماتهم ودعاة عروشهم ومشايخ دراهمهم نحو توحيد رسالة الإرهاب الدموي والأفتاء بتمزيق الأمة .
عاصر الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام الذي نعيش اليوم الخامس من شعبان المعظم ذكرى مولده المبارك، ستة من حكام أمويين ظلمة متفرعنين، مسودة صفحات تاريخهم بالقتل والذبح والتحريف والتزييف والقمع والتنكيل بأهل بيت الوحي والتنزيل عليهم السلام وأتباعهم ومحبيهم وكل داعية بالعودة نحو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهم: يزيد بن معاوية ـ (61ـ 64)، وعبد اللّه بن الزبير ـ (61ـ 73)، ومعاوية بن يزيد (بضعة شهور من عام 64)، ومروان بن الحكم ـ (تسعة أشهر من عام 65)، وعبد الملك بن مروان ـ (65ـ 86) والوليد بن عبد الملك ـ (86ـ 96)، الذين عقدوا العزم على التضليل على الدين المحمدي الأصيل والثورة الحسينية الخالدة ثورة إنتصار الدم على السيف، فكان الامام السجاد (ع) لهم بالمرصاد مستخدماً سلاح الدعاء والخطابة لفضح أنحراف السلطة والأمة والتصدي لهم بكل الوسائل السلمية فأضحى أمثولة للنضال السلمي ضد الأنظمة الديكتاتورية يتمسك به الكثير من المسلمين الأحرار منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا في ربوع عالمنا الاسلامي وبلاد الأفرنج.
ولد الامام علي بن الحسين (ع) سنة ثمانية وثلاثين للهجرة بالمدينة المنورة، وقضى طفولته هناك، وأدرك سنتين من خلافة جدّه الامام علي أمير المؤمنين (ع)، وعاصر بعدها فترة عشرة أعوام من إمامة عمّه الامام الحسن المجبتى (ص)، ثم مع أبيه الامام الحسين (ع) لمدّة عشر سنوات ايضاً وهو يجاهد الطاغية الفاسد الفاسق معاوية بن هند آكلة الأكباد ذات الرايات الحمراء، ذلك الطاغية الذي كان في قمة التزييف والتزوير والإنحراف والبذخ والتبذير والإرشاء.
حضر الامام زين العابدين (ع) فاجعة الطف التي ذهب ضحيتها العشرات من أهل بيته الميامين وأنصارهم الكرام مقطعي الرؤوس والأجساد ولم ينجو منهم حتى الطفل الرضيع، ليحمل لواء نشر الثورة الحسينية على عاتقه بوسائله السلمية ويجعل من دم أبيه الامام الحسين عليه السلام الطاهر ينتصر على قوة سيف الظلم والطغيان ويضحى مناراً للأحرار والشرفاء والنجباء والمجاهدين المدافعين اليوم عن شرف الأمة ووحدتها متصدين للارهاب التكفيري الوهابي السلفي الذي يفتك بالمسلمين الأبرياء في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفغانستان وباكستان وليبيا ونيجيريا والبحرين وغيرها من بلاد المسلمين أو سائر بقاع العالم بأسم الدين الحنيف، دون مبالاة منتهجين مدرسة "القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة" .
تمكن الامام السجاد (ع) ورغم أنه كان وحيداً وأنصاره لايتجاوزون عدد أصابع اليدين من التصدي بعلمه وفكره وإيمانه وقوته الالهية ورسالته السماوية التي كان يحملها على عاتقه من التصدي لإنحراف الأمة والتصدي لظلم وطغيان وجبروت وفرعنة الحكام والسلاطين وعلماء الزور والتزييف الذين أرادوا بالأمة العودة الى جاهلية قبل الاسلام، ذلك الانحراف الذي تمسك به الأحفاد من الأسلاف ونشهده يعصف ببلاد المسلمين وعبدة البترودولار يفتون بما لذ وطاب للحاكم والسلطان في قتل وذبح الانسان، وتدمير البلاد، وتمزيق العباد، وحرق الأخضر واليابسة، ونهب ثروات الأمة، وسلب النساء وتدنيس المقدسات، والقتل على الهوية الذي لا يستثني حتى الأطفال، وإيقاع الفتنة الطائفية بفتاوى تكفيرية سعودية - خليجية - صهيونية؛ سعياً للتضليل على نهج أئمة الهدى والرسالة السماوية السمحاء الخالدة لكن مشيئة الباري تعالى تشدد على إعتلاء كلمة الحق ودحر الظالمين والمشركين والمنافقين على يد المؤمنين وهو وعد صدق جاء في كتابه الحكيم "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *- سورة التوبة: 23و33.. وأن وعد الله لقريب "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ .." - سورة هود: 81 .
لم يخلق الله سبحانه وتعالى فضيلة أو موهبة كريمة يتميز بها الانسان إلا وهي من عناصر شخصية الامام زين العابدين (ع) ومن ذاتياته، فلم يجاره أي أحد في نزعاته، وعناصره النفسية التي كان السائد فيها سمو الآداب، ومكارم الأخلاق، وشدة التحرج في الدين.. ولا يكاد يقرأ أحد سيرته الندية إلا وينحني إجلالاً وإكباراً له، ويذهب به الإعجاب الى غير حد، وقد استصغر عظماء الرجال في الإسلام من المعاصرين له نفوسهم أمام الحشد الهائل من فضائله وعبقرياته، ورفعته مثله العليا الى قمة الشرف والمجد التي أرتقى إليها العظماء من آبائه الذين وهبوا حياتهم للإصلاح الاجتماعي؛ حيث يقول سعيد بن المسيب وهو من كبار علماء المدينة آنذاك:"ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين، وما رأيته قط إلا مقت نفسي..."( تأريخ اليعقوبي ج 3 ص 46).
فسلام عليه يوم ولد ويوم أستشهد ويوم يبعث حيا ورزقنا الله عزوجل زاياكم زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة والجلوس معه في دار القرار، أمين يارب العالمين.