كان الأمام الكاظم(ع) هو من الأئمة المعصومين الذين اتفقت عليه كافة الفرق الإسلامية على علمه وتقواه وزهده وكان يشار اليه بالبنان من مختلف علماء المذاهب بل كانوا يذهبون اليه لأخذ الرأي والمشورة في العديد من القضايا الفقهية التي لا يجدون لها حل. ولو أردنا أن نكتب عن ذلك لاحتجنا الى كتب ومجلدات لبيان أعلمية وفقه هذه الشخصية الجليلة وبالرغم من التعتيم الذي فرض عليه من قبل الحكام والسلاطين من بني العباس، كيف ولا وهو يملك مواريث الأنبياء ومفاتيح الأرض والسماء فهو حجة الله في أرضه والذي ورث هذا العلم الآلهي من أبائه وأجداده ومن جده الرسول الأعظم محمد(ص). ولكن نحن سنستعرض بعض من علمه وتقواه وزهده لبيان المكانة العظيمة والسامية التي يمتلكها هذا الأمام الجليل.
علم الأمام
ابو حنيفة
ذكرت المصادر التاريخية دخلت المدينة فأتيت جعفر بن محمد عليه السلام فسلّمت عليه وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى عليه السلام في دهليز قاعداً في مكتب له وهو صبي صغير السن فالتفت أبو حنيفة الى صاحبه فقال : يابن مسلم من هذا ؟ قال هذا موسى ابنه ، قال : والله لاجبهنه(أي اصغره) بين يدي شيعته قال : مه لن تقدر على ذلك ، قال : والله لافعلنه فقلت : أين يضع الغريب إذا كان عندكم ، إذا أراد ذلك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يجتنب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية الدار ، والطرق النافذة ، والمساجد ، ويضع بعد ذلك أين شاء . فلمّا سمعت هذا القول نبل في عيني ، وعظم في قلبي .
وقلت له : جعلت فداك ، ممّن المعصية ؟ فنظر إليَّ نظراً ازدراني به، ثم قال : اجلس حتى أخبرك ، فجلست فقال : إنّ المعصية لابدّ أن تكون من العبد ، أو من ربّه ، أو منهما جميعاً ، فإن كانت من الربّ فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله ، وإن كان منهما جميعاً فهو شريكه ، فالقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجّه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ؛ ولذلك وجبت له الجنة والنار .
فلمّا سمعت ذلك قلت : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1).
ولا ريب أنّ غلاماً مهما بلغ من النضج والفطنة والذكاء لا يمكنه أن يحدّد الموضوع بهذه الطريقة الجامعة المانعة ، إذا لم يكن متميّزاً عن سائر أقرانه بالنبوغ الذي ينم عن علم إلهي كعلم الأنبياء والأوصياء .
دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له:
رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه، فلم ينههم عن ذلك؟ فأمر أبو عبد الله (عليه السلام) بإحضار ولده فلما مثل بين يديه قال له: (يا بني، إن أبا حنيفة يذكر إنك كنت تصلي والناس يمرون بين يديك؟)
فقال (عليه السلام): (نعم، يا أبتِ وإن الذي كنت أصلي له أقرب إليّ منهم، يقول الله عزّ وجلّ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(2).
عندها فرح الإمام الصادق (عليه السلام) وسرّ سروراً بالغاً لما أدلى به ولده من المنطق الرائع، فقام إليه وضمه إلى صدره وقال مبتهجاً: (بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار)(3).
مع هارون العباسي
المسألة الأولى : ....وسكت ساعة ثم قال له: أريد أن أسألك عن العباس وعلي بما صار عليّ أولى بميراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من العباس، والعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه؟
فقال له الإمام (عليه السلام): أعفني. قال: والله لا أعفيتك، فأجبني.
قال: فإن لم تعفني فآمني. قال: آمنتك، قال موسى بن جعفر (عليه السلام): إن النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر، وإن علياً آمن وهاجر، وقال الله: (﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾)(4) فالتمع لون هارون (أي تغيّر).
المسألة الثانية : ثم تابع الرشيد فقال: ما لكم لا تنسبون إلى عليّ وهو أبوكم وتنسبون إلى رسول الله وهو جدكم؟ فقال الكاظم (عليه السلام):
إن الله نسب المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) إلى خليله إبراهيم (عليه السلام) بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله تعالى: (﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾)(5) (﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾) (6). فنسبه لأمه وحدها إلى خليله إبراهيم (عليه السلام). كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون (عليه السلام) بآبائهم وأمهاتهم، فضيلة لعيسى (عليه السلام) ومنزلة رفيعة بأمه وحدها. وذلك قوله في قصة مريم (عليها السلام): (﴿ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾) (7).
بالمسيح من غير بشر. وكذلك اصطفى ربنا فاطمة (عليها السلام) وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة فقال له هارون ـ وقد اضطرب وساءه ما سمع .
المسألة الثالثة : من أين قلتم الإنسان يدخل الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذي لم يدفع إلى أهله، فقال الإمام الكاظم (عليه السلام): هذه مسألة ما سئل عنها أحد من السلاطين غيرك، ولا تيم ولا عدي ولا بنو أمية ولا سئل عنها أحد من آبائي فلا تكشفني عنها. قال الرشيد: فإن بلغني عنك كشف هذا رجعت عما آمنتك. فقال موسى (عليه السلام): لك ذلك. قال (عليه السلام): فإن الزندقة قد كثرت في الإسلام وهؤلاء الزنادقة الذين يرفعون إلينا في الأخبار، هم المنسوبون إليكم.
فقال هارون: فما الزنديق عندكم أهل البيت؟ فقال (عليه السلام): الزنديق هو الراد على الله وعلى رسوله وهم الذين يحادّون الله ورسوله. قال تعالى: (﴿ لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾)(8).
وهم الملحدون، عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد.
فقال هارون: أخبرني عن أول من ألحد وتزندق؟ فقال (عليه السلام): أول من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين، فاستكبر وافتخر على صفي الله ونجيبه آدم (عليه السلام) فقال اللعين: (( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) (9). فعتا عن أمر ربه وألحد فتوارث الإلحاد ذريته إلى أن تقوم الساعة فقال هارون: ولإبليس ذرية؟ فقال (عليه السلام): نعم ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: (﴿ إِلاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾)(10) فهل عرف الرشيد من أي فريق هو؟!(11).