واجه الدين الاسلامي الحنيف بعد رحيل الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم انحرافاً خطيراً في المجتمع الاسلامي الحديث العهد على الصعيد الاجتماعي والسياسي في ادارة الدولة طبقاً للعدل والقسط والمساواة وعادت القيادة والقاعدة الى العهد الجاهلي.
اخذ هذا الأمر المرير يتسع ويتعمق على مرّ الزمن بدافع من السلطتين الأموية والعباسية المنحرفتين بتشوية الصورة الواقعية للدين الاسلامي المحمدي الاصيل والتمهيد لتثبيت خط الانحراف على طول التاريخ كي تضحى التجربة الاسلامية لادارة الدولة والمجتمع مليئة بالتناقضات وعاجزة عن مواكبة الحدّ الأدنى من حاجة الاُمّة ومصلحتها الاسلاميّة والانسانيّة.
حينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة بعد مدى من الزمن لانهيار كامل وهو الهدف المنشود لبني أمية ومن بعدهم بني العباس ليعودوا الى جاهليتهم وقبليتهم ويمسكوا بقبضة حديدية على رقاب الناس ويأمرونهم بعبادة الاوثان ولكن هذه المرة من جنس الحكام الطغاة والمتغطرسين وشاربي الخمور كما هو الحال مع غالبية بل معظم حكامنا في البلاد العربية.
اريد بذلك أن تتعرض الدولة الاسلامية ومجتمعها وحضارتها وقيادتها للامة الى الانهيار الكامل; أي أن تسقط الحضارة الاسلامية وتتخلى عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصى الاسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للاُمّة ومن ثم لم تجد هذه الاُمّة نفسها قادرة على تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما اُهينت كرامتها وحُطِّمتْ ارادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد اخضاعها لزعامتها القسريّة.
ومن الطبيعي أن تنهار الامة الاسلامية باندماجها مع التّيار المنحرف الذي نما في داخلها ومن ثم تذوب وتذوب رسالتها المحمدية وعقيدتها الفذة وتصبح خبر كان بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الاسلام نهائياً.
من هنا ينطلق دور الأئمّة المعصومين الاطهار عليهم السلام الذين اُوكِلت لهم هذه المهمة الربانية في صيانة التجربة والدولة والاُمّة والرسالة الالهية التي بقت صامدة وشامخة حتى يومنا هذا مرفوعة الرأس يشدوا اليها الجميع للوصول الى ساحل العزة والكرامة والامان.
ومن بين أئمتنا الهداة أنوار الطريق القويم الامام علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) والذي نعيش اليوم ذكرى شهادته الأليمة حيث إمتازت امامته بقوة المؤمنين وتوسعهم في داخل المجتمع وداخل الدولة، ما أرعب الطاغية المتوكل العباسي وجعله يهتم بهذا الأمر وبالفعل امتاز بالشدة والملاحقة والتصفية الجسدية لأنصار الإمام الهادي (ع) وكان النظام القمعي العباسي شأنه شأن الأنظمة العربية الحالية خاصة دول مجلس التعاون وشقياقاتها الموروثية، يراقب بقبضة حديدية مواقع تجمع المعارضة ليمنعهم من التواجد فيها ولما كان يعتبر قبر الإمام الحسين(عليه السلام) الشهيد نبراس الثائرين والمظلومين فكانوا يجتمعون حول القبر يزورون ويتزودون صبراً وقوة وإصراراً على الجهاد والثورة لذلك أمر المتوكل بنبش القبر وحرثه، ويقول ابن الأثير وتاريخ الطبري في هذا الاطار: أنه في تلك السنة هدم المتوكل العباسي قبر الامام الحسين بن علي (ع) وسواه بالتراب ثم أمر بحرث الأرض وزرعها لتضييع معالمه وقتل عدداً كبيراً من زواره وبالتالي فرض عليهم الضرائب وشتى أنواع العقوبات ليُمنعوا عن زيارته وكان يستهدف كسابقيه عزل الامام (ع) عن الجماهير ومنعه من أداء دوره القيادي في الأمة وكان أسلوب النظام يمتاز بالعنف والحديد والنار فعلى مستوى القائد الامام الهادي (ع) كان يؤخذ الى سامراء ليتم الإشراف عليه ومراقبته بشكل مباشر وعلى مستوى الجماهير كانت السلطة تلاحقهم عند قبر الامام الحسين(ع) لتمثل بهم كضريبة طبيعية للزيارة المباركة.
وتصدى الامام الهادي (عليه السلام) في فترته الطويلة من الامامة للخرافات الدخيلة وعلى الاسلام ومن أهمها الفلسفة الانحرافية التي انتشرت وبشكل كبير في مختلف أرجاء البلاد الاسلامية والتي كانت تثيرها المدارس الفكرية كالمعتزلة والأشاعرة فيما كانت الخلافة العباسية تتبنى إحدى المدرستين وذلك لأهداف سياسية معروفة حيث يؤتى بالخصوم ويسأل مثلاً عن خلق القرآن الكريم ؟ هل هو قديم أم مخلوق؟. فإذا قال قديم فهنالك من يكفره ويأمر بقتله لأنه سيؤمن بتعدد القدماء ولا قديم إلا الله... وإن قال مخلوق فهنالك من بكفّره ويأمر بقتله لأنه يؤمن بأن القرآن مخلوق أي مختلق ليس وحي منزَل من قبل الله عزوجل !!.
وسعى الامام علي الهادي (ع) في تحصين الأمة وتحمل العناء في ظل أجواء الترف والبذخ والرئاسة مما دفع بالسلطة وخوفاً من فشل مخططاتها الشيطانية وبغية عزل الامام (ع)عن أجهزته القيادية وقواعده الشعبية الى نقله الى مدينة سامراء ووضعه تحت الرقابة الأمنية المشددة، ولكن رغم كل هذه القسوة كان الامام علي الهادي (ع) يتدارك الأمر ويعالجه بالتحرك السري التام مع انصاره واصحابه ويوسع القاعدة الاجتماعية ويحصنها عبر أساليب الاتصال السري والعمل بواجبه كقائد رباني في هداية الأمة .
أمام هذا الواقع قرّر المتوكّل التخلص من الامام الهادي (ع) فسجنه مقدمة لقتله. ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى حالت دون ذلك فلم يلبث إلاّ قليلاً حتى هجم الأتراك على المتوكل العباسي في قصره وقتلوه شر قتلة. ولم تنته محنة الامام الهادي (ع) بهلاك الطاغية المتوكل، حيث بقي تحت مراقبة السلطة العباسية باعتباره موضع تقدير الأمة وتقديسها.
ثقل الأمر على طواغيت بني العباس حتى جاء دور المعتز العباسي، ما يراه من تبجيل الناس للامام علي الهادي (ع) وحديثهم عن مآثره وعلومه وتقواه فسوّلت له نفسه اقتراف أخطر جريمة في الاسلام حيث دسّ له السم القاتل في طعامه. فاستشهد الامام علي الهادي (ع) في اليوم الثالث من شهر رجب عام ۲۵۴ للهجرة على ما استشهد عليه آباؤه الكرام سلام الله عليهم أجمعين وله من العمر ما يناهز الواحد والأربعين سنة.
لقد عانى الامام علي بن محمد الهادي (ع) الكثير والكثير من الظلم والاضطهاد من خلفاء بني العبّاس، فقد عاش مع “المعتصم”، ثم “الواثق” خمس سنين وسبعة أشهر، ثم “المتوكّل” أربع عشرة سنة، ثم ابنه “المنتصر” أشهراً، ثم “المستعين” سنتين وتسعة أشهر، ثم “المعتزّ” ثماني سنين وستة أشهر.