القرآن والطاقة/حيدر الحدراوي

الاحد - 12/01/2020 - 22:34


‎في مجتمع كان يسوده الظلم والاجحاف , يتمرغ فيه الطغاة في وحل الرذيلة , يسوده الشرك والبعد عن الحقيقة ناصعة البياض , حتى وإن كان هؤلاء يدعون إنهم سدنة الكعبة وحماتها وأولى الناس بها , تكبروا وميّزوا أنفسهم عن سائر البشر , ووضعوا لأنفسهم ما جردوا غيرهم عنه , وقسموا مجتمعهم الى ثلاث طبقات : 
‎1- طبقة السادة والأشراف: تضمنت السكان الأصليين وبعض الأغنياء.
‎2- طبقة وسطية شملت الغرباء والعتقاء .
‎3- طبقة العبيد.
‎بالتأكيد احتفظوا لأنفسهم بأفضل الطبقات تكبراً وغروراً , وزيادةً في العنجهية , فساد الظلم , ظلم الأنسان لأخيه الأنسان , وارتكبت أبشع الرذائل , حتى كانت الرذيلة مما يفتخر به , ولا يخجل منها كما هو المفترض. 
‎وفقاً لمعطيات الطاقة السلبية مجتمعاً كهذا كان مغموراً بها , فجميع مسبباتها كانت ماثلة ومتاحة , فمنها لا على سبيل الحصر: 
‎1- الظلم والمظلومين وصرخاتهم وأنينهم , له أكبر عامل مساعد لانتشارها , بل هو أكبر مولد لها.
‎2- الرذائل : بكل أنواعها تعد من أكبر مسببات الطاقة السلبية.
‎3- القتل: من أكبر العوامل لها , وكفى بالموؤودات مثالاً. 
‎من المعطيات الحتمية , إن الشياطين تتغذى على الطاقة السلبية , بها تنمو وتترعرع وتقوى وتنشط , وبها تكون عناصر فاعلة أكثر , وبدونها يكون العكس ، فالشيطان هو البؤرة التي تجذب الطاقة السلبية حولها ، وبها تنشط أو تضمحل . 
‎وايضاً , في مجتمع كهذا لابد أن يكون هناك مصدراً للطاقة الإيجابية , وإن كانت خافتة , وإلا لهلك سكان هذه المدينة على مبدأ (لو خليت قلبت) , فكان هناك بنو هاشم متمسكون بالطاقة الإيجابية وبكل عناصرها , ومعهم عدة من قبائل العرب التي لازالت تدين بالحنيفية كقبيلة بني عامر. 
‎بمجرد ان وصلت الطاقة السلبية أوجها , نزل القرآن الكريم في مواجهتها , فنزل على خير البشر وأكثرهم قدرة على احتمال تبعات الدعوة الإسلامية , فكان لها وأهلها. 
‎تتجلى الطاقة الإيجابية في نصوص القرآن الكريم واضحة , فمن المعروف إن الطاقة السلبية ظلام لا نور فيها ولا معها , والطاقة الإيجابية نور لا ظلام فيها ولا معها , فصدح القرآن الكريم {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }إبراهيم1, {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }التغابن8, النور يفتح البصر والبصيرة وينير الدرب ويكشف عن الطريق الأقوم {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }المائدة16, بدون هذا النور لا يمكن الاهتداء الى الصراط المستقيم السوي.
‎هذا من جهة , ومن جهة أخرى , فإن الخوف والحزن من عوامل الطاقة السلبية الكامنة والمؤثرة على فعاليات الأنسان النفسية والعضوية , بذا تمكن المؤمنون الأقوياء من نفي الخوف والحزن عن أنفسهم بعد ان تجردوا من الطاقة السلبية بتوفيق رباني {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }يونس62, تشير أكثر كتب التفسير الى إن مضمون الآية الكريمة في الأخرة , لكن الحال لا يتنافى حين يكون ذلك في الدنيا أيضاً , وهذا هو الملحوظ في سير الأنبياء "ع" وكذلك سير الصالحين , ثم نلاحظ أمراً غريباً في نفس الآية الكريمة وجود الأداة (أَلا) , فلو اقتطعت منها {إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لن يكون لها التأثير المطلوب , وذلك لأن الأداة (أَلا) تخاطب العقل الباطن , كتنبيه وتحفيز , حيث إن مدارات عمل الطاقة بنوعيها الإيجابية والسلبية في العقل الباطن إن لم يكن حصراً ففي أغلب الأحوال. 
‎طالما إن مدار عمل الطاقة في العقل الباطن نلاحظ إن أغلب الآيات الكريمة تختتم بمحفز موجه بدقة وعناية فائقة صوبه, من قبيل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }البقرة44, {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }الأنعام32, يلاحظ إن سياق الآيتين سيكون ضعيف التأثير لو تجاهلنا أو أقتطعنا (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) منهما , كذلك الحال في الآيتين {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }البقرة207, صدر الآية بخاطب العقل الواعي , أما ختامها (وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) موجه نحو العقل الباطن , الحال نفسه في الآية الكريمة {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }النور20, حيث كان يمكن الإكتفاء بصدر الآية (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) مخاطباً العقل الواعي فما الداعي لختامها بـ(وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) , الرأفة والرحمة سوف تنسل الى العقل الباطن بأريحية ويسر لا نظير لهما.