"السلام على من غسله دمه، ونسج الريح أكفانه، والتراب الذاري كافوره، والقنا الخطي نعشه، وفي قلب من والاه قبره.. السلام على الجسم السليب، السلام على الشيب الخضيب، السلام على المحزوز رأسه من القفا، السلام على مسلوب العمامة والرداء...".
أربعون منزلاً على طول التاريخ البشري عانى ما عانى أهل بيت الوحي والنبوة والامامة عليهم السلام ومن معهم، من المآسي والويلات والمصائب الشداد والإذلال والحقد وإجرام الارهاب التكفيري الأموي الحاكم آنذاك وحتى يومنا هذا، ذلك الارهاب الذي لا يطيق وبكل ما للكلمة من معنى سماع قول أشهد أن محمداً رسول الله وهو يعلو المآذن خمس مرات في اليوم.. فكانت أحداث الطف عام 61 للهجرة ثورة انتصار للإسلام المحمدي الأصيل على إسلام أبناء الطلقاء المزيف والمنحرف وإرهابهم التكفيري، وكانت في حقيقتها حركة إصلاحية شاملة بدأت من ذات الإنسان لتتحرك في المجتمع والمؤسسة والدولة، حيث قالها الامام الحسين عليه السلام "إنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلا بَطَرًا، وَلا مُفْسِدًا وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي..".
لازال التاريخ يذكر صرخة الطاغية "معاوية بن أبي سفيان" وأمه "هند" صاحبة "الرايات الحمر" بوجه صديقه ونديمه "المغيرة بن شعبة" عندما طلب منه أن يصل أرحام بني هاشم بإعتباره حاكماً على الشام، وهو يقول: "هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر و إن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى و أي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا و الله إلا دفنا دفنا" (شرح نهج البلاغة لأبن أي الحديد ج شرح نهج البلاغة ج5 - ص129قال: روى الزبير بن بكار في الموفقيات عن المطرف بن مغيرة بن شعبة).
اليوم.. الأربعين الحسيني هو طواف بشري ضخم تشهده مدينة كربلاء المقدسة في يوم تجديد الولاء لأبي عبد الله الحسين.. أفواه الملايين تلهج باسمه وقلوبهم تهفو إليه، وعيونهم شاخصة الى القبة الشامخة شموخ شمس في ناصية النهار.. ملايين الزوار والموالين يجددون البيعة والولاء للسبط الشهيد وأسباب ثورته الخالدة؛ ليعد هذا الحشد الديني الأكبر في العالم، حيث يجتمع المحبون من كل ناحية وصوب في مشهدية رائعة.. رجال، ونساء، وأمهات يحملن الرضع، وشباب، وعجّز، جميعا يسيرون مشياً على الأقدام نحو معشوقهم قبلة الإصلاح والصلاح والحرية والإباء والتضحية والفداء وإعلاء راية الاسلام المحمدي الأصيل خفاقة في ربوع المعمورة على طول الدهر، ترافقهم صور ومجسمات من عاشوراء تظهر مظلومية الحسين (ع) وأهل بيته.
إن إحياء الأربعين الحسيني في كل عام بمليونية متنامية ومتزايدة تبهرالناظرين والسامعين والمتابعين لها وتربك أعداءها وتزلزل عروشهم، أنما هي للتأكيد على تمسك أنصار أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بحبل الهداية الربانية لهذه المدرسة الوضاءة والمنيرة الرافضة لكل الأنظمة الطاغية والفرعونية والاستكبارية والاستبدادية والمستكبرة والمنحرفة القائمة على الزور والتزير واستعباد الناس وإستحمارهم والحكم عليهم بقبضة حديدية وهو ما نشاهده على طول التأريخ ولا يزال مستمراً حتى عصرنا الذهبي هذا كما يسمونه في غالبية بلاد الاسلام خاصة العربية منها.
التاريخ لا يزال يستذكر صرخة الامام الحسين بن علي (ع) في يوم عاشوراء عام 61 وهو يخاطب جيش أبن زياد المرواني الذي قدم بعشرات الآلاف لقتل أهل بيته وأصحابه لرفضهم مبايعة الفاجر الفاسق شارب الخمر مداعب القرود يزيد بن معاوية، قائلا: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء، قلّ الديّانون"؛ فسار الخلف على خطى السلف في تكفير أخوته المسلمين المؤمنين وبقر بطونهم وإزهاق أرواحهم والدخول على أعراضهم يتبجحون بفعلتهم الشنيعة وسيرهم على خطى أجدادهم وأئمتهم وهم يرفعون يالثارات بدر والاحزاب والخندق وخيبر ويصدحون بها دون خجل أو أستحياء مطالبين بدم آل الأطهار (ع) وشيعتهم ومحبيهم وهم يتنغمون ويستشفون نفوسهم المريضة بقتلهم وتفجيرهم وتمزيق أجسادهم وتقطيع أوصالهم وأكل الأكباد على خطى جدتهم "هند" وفعلة سيدهم "يزيد" .
أن الذي يدفعنا نحو زيارة الامام الحسين عليه السلام هو أننا نريد بذلك أكراماً للدم الطاهر الثائر لا زيارة التراب أو العظام كما يتهمنا البعض، لذا عندما نقف عند مرقده الشريف نقول: "أشْهَدُ لَقَدْ اقْشَعَرَّتْ لِدِمائِكُمْ أَظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أَظِلَّةِ الخَلائِقِ وَبَكَتْكُمْ السَّماءُ وَالأَرضُ وَسُكّانُ الجِنانِ وَالبَرِّ وَالبَّحْرِ صَلّى ..."، ما يعني أن هذا الدم الذي أرقتموه على التراب دم عزيز عند الله لآنه سيأخذ أثره من الإصلاح، ويهد عروش الظالمين حكومات الطغاة مهما كانت ستزول إلا أن دم الامام الحسين (ع) الطاهر سيبقى قائما بين الشعوب حتى قيام الساعة.
قُم جدد الحُزن في العشرين من صفر****ففيهِ رُدت رؤوسُ الآلِ للحفرِ
قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم لفلذة كبده الامام الحسين عليه السلام ذات مرة "من زارني حيًّا أو ميتًا، أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك، كان حقًّا عليّ أن أزوره يوم القيامة، وأخلّصه من الذنوب"- رواه الصدوق، في كتاب الهداية، ص 255؛ وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ حَجَّ دَهْرَهُ ثُمَّ لَمْ يَزُرِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ; لَكَانَ تَارِكاً حَقّاً مِنْ حُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) لأنَّ حَقَّ الْحُسَيْنِ فَرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" – جاء في كتاب وسائل الشيعة لزين الدين الحرّ العامليّ ج10 ص 333؛ وكذلك في كتاب التهذيب ج6، باب 16 فضل زيارته (سلام الله علیه) ص42، ح2.
عقود وقرون طويلة شكلت مسيرة سبايا كربلاء عاشوراء الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته المنتجبين وخيرة أصحابه الميامين، تلك التي بدأت من مساء يوم عاشوراء عام 61 للهجرة من أرض الطف بكربلاء لتستمر حتى يومنا هذا، حيث ما زال أنين وعويل وآهات الأطفال والنساء تدوي في آذان المعمورة من وحشية وقساوة الحكام الطغاة وفراعنة العصر وفسقة الأمة الذين أعادوها الى جاهليتها وقبليتها ووثنيتها بأسم الاسلام الأموي المنحرف لتعيش الظلم والعنف والطغيان والجبروت والشقاء، يدفع المؤمنين والصلحاء والأحرار دماءهم الطاهرة والزكية ثمن إيمانهم ودفاعهم عن الرسالة المحمدية الأصيلة وحقيقة السماء التي أريد لها إنقاذ البشرية من الضلالة والجهالة والاستحمار والاستعباد والاستغلال نحو وحدانية الخالق الجبار في أمة أراد لها أن تكون "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" - آل عمران: الاية 110 .
إستبداد وظلم وهتك للأعراض وإستباحة للدماء الطاهرة بقوة السلطة وتزوير الفتاوى ومال بيت المسلمين وتصدير للارهاب التكفيري المتلبس بلباس الدين الأموي المزيف والمزور انطلاقاً من أرض الوحي مستهدفاً سائر بلاد المسلمين وغيرها لتشويه صورة الاسلام المحمدي الأصيل (الاسلاموفوبيا) والإصرار على عودة الأمة الى عصر ما قبل انطلاق الهداية الربانية عصر الجاهلية والظلمات وعبودية القوة وتعدد الآلهة وإتساع نطاق الفرقة والنفاق والركون لرغبة القوي وإستعباد الضعيف واستغلاله، ومروراً بسائر مناطق شبه الجزيرة العربية شبراً شبرا دون إستثناء طغاة توارثت السلطة والإجرام خلفاً عن سلف، واليمن المستباح أرضاً وبشراً وزرعاً وصخراً نموذجاً صغيراً في هذا الاطار.
إن لزيارة الأربعين الحسيني التي يهابها الطغاة وفراعنة العصر والتي تزداد كل عام إتساعاً وتفاعلاً وتأثيراً بفضل "حب الحسين يجمعنا"، هي في الحقيقة محفزات إنسانية قبل أن تكون شرعية أو إعتقادية، فهذه الأمواج البشرية الهائلة إنما هي تجسيد على الأرض لفطرة الإنسان التي تتألم لوجع المظلوم وتسعى لمواساته، وتحذيراً واضحاً أوضح من ضوء الشمس الى الحكام الطغاة بعدم الخلود على العرش، فلا زال صوت عقيلة الهاشميين يصدح في إرجاء المعمورة وهي تخاطب الطاغية الفاسق الفاجر شارب الخمر ومداعبة القردة وقاتل النفس الزكية يزيد بن معاوية بن هند آكلة الأكباد وهي تخاطبه بكل شجاعة علوية في مجلسه بالشام "فكِدْ كَيْدكَ واسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جُهْدَكَ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وَحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تُرحِضُ (9) عنك عارَها؛ وهل رَأيُك إلاّ فَنَد (10)، وأيّامُك إلاّ عَدَد، وجَمْعُك إلاّ بَدَد، يومَ يُنادي المنادِ: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ".
أين القصور أبـا يزيـد ولهوهـا****والصافنـات وزهوهـا والسـؤددُ
تلك البهارج قد مضـت لسبيلهـا****وبقيـت وحـدك عبـرة تتجـددُ
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسـه****لا سال مدمعك المصيـر الأسـودُ
كتل من التـرب المهيـن بخربـةٍ****سكر الذباب بهـا فـراح يعربـدُ
فاسأل مرابض كربـلاء ويثـرب****عن تلكـم النـار التـي لا تخمـدُ
أرسلـت مارجهـا فمـاج بحـره**** أمس الجـدود ولـن يجّنبهـا غـدُ
نازعتها الدنيـا ففـزت بوردهـا****ثم انقضـى كالحلـم ذاك المـوردُ
وسعت الى الأخرى فخلد ذكرهـا****في الخالدين وعطف ربـك أخلـدُ