المِثالُ المَلمُوسُ والمشاهدُ عَن ظاهرةِ الطُفولةِ عندنا هو: مثال " الطُفولة البيولوجية" ، ولكنَّنا نَغفلُ عن طفولاتٍ اخرى في حياتِنا منها : الطفولةُ الفِكريَّةُ ، والطفولةُ الروحيَّةُ ، والطفولةُ السياسيَّة ، والطفولةُ الحَضاريَّةُ . وفي مُقابِلِ الطفولةِ البيولوجية ، هناك النضجُ البيولوجي ، وهذا هو المثال الملموسُ والمشاهدُ عن ظاهرة "النُضج" عندنا ، ونغفل عن امثلةٍ اخرى للنضج كالنضج الفكري ، والنضج الروحيّ ، والنضج السياسي ، والنضج الحضاري.
هَل نحنُ ناضجونَ ام مانزالُ في طورِ الطفولةِ؟
من خصائصِ الطُفولةِ البيولوجيَّةِ ، أنَّ الانا هو محورُ هذهِ الطُفولةِ ، وَمَركزُ استقطابها؛ فالطفلُ يُفَكِّرُ في عالَمِهِ هو، هذا العالَمُ المتمركز حول " ذات الطفل" ، الطفل يتحدث عن اشيائهِ ، وعن ملكياته ، وعن ابيهِ وامّهِ بمنطقه الطفولي الانانيِّ المسجون في سجنِ الذات الذي لايستطيع الخُروجُ منهُ مادامَ طِفلاً.الطفلُ لهُ عالَمُهُ الخاصُّ ، ولغتهُ الخاصّةُ ، ومفرداتهُ الخاصّةُ.
اذا خرجَ الطِفلُ من سجنِ ذاتِهِ وانانيّتِهِ ، فانها تَشَكّلُ الخُطوَةَ الاولى نحو النُضج البيولوجي.وليس هناك تَلازُمٌ بينَ النُضجِ البيولوجيِّ ، واشكالِ النُضجِ الاخرى. فقد يكونُ الانسانُ ناضجاً نُضجاً بيولوجيّاً ، ولكنه يعيش اشكالاً اخرى من الطفولة من قبيل الطفولة العقليّة والطفولة الروحية ، والطفولة السياسيّة ، والطفولة الحَضاريّة .
سياسيّونا ناضجونَ نُضجاً بيولوجيّاً ، ولكنّهم ليسوا ناضجينَ سياسيّاً طالما انهم يفكرون في ذواتهم وانانياتهم ومصالحهم الشخصية ، انهم مسجونونَ داخلَ ذَواتهم ، وقابعون في اعماق انانيتهم.وعندما يخرجون من التفكير الضيق في انانياتهم ومصالحهم الشخصيّة ، فهذهِ تُشَكِّلُ الخطوةَ الاولى باتجاهِ النضج السياسي.سياسيوا العالم المتقدم ، يختلفون في الرؤى والتوجهات ، ولكنهم في القضايا الكبرى والمصيرية التي تمس اوطانهم واممهم يتوحدون ، ويتناسون كلَّ خلافٍ ؛ لانهم ناضجونَ سياسيّاً.
تبدأ حياة الحشرة بطفولة بيولوجيّةٍ ، بيرقَةٍ ، وهذه اليرقة تَلُفُها شَرنَقَةٌ ، هي مسجونةٌ بهذهِ الشرنقة ؛ لانها تعيش في طورِ الطفولةِ البيولوجيِّ ، ولكنها حينما تخرجُ من هذا الطور الطفولي البيولوجي ، وتمزقُ شَرنَقَتَها ، فانها تكونُ قد عبرت طور الطفولة الى طور النضج والاكتمال " طور الفراشة" .
نحنُ نأتي الى هذا العالَمِ ، تحيطُ بنا شرانقُ متعددةُ ؛ تُبقينا اطفالاً في تفكيرنا وعقلياتنا ، ومن يمتلك الارادةَ هو الذي يُمزقُ هذهِ الشرانقَ ، ليَخرُجَ من طفولتهِ الى عوالمِ النضج العقلية والروحيّة والنفسيّة .
هل شعوبنا ناضجة ام ماتزال في طور الطفولة؟
شعوبُنا الاسلاميّة من "طنجة الى جاكارتا" حسب تعبير المفكر الجزائري الراحل "مالك بن نبي" ، هل هي شعوبٌ ناضجةٌ ام ماتزال في طور الطفولة؟
حينما نجدُ اكوامَ القمامةِ تغطي شوارِعَنا ، فهذ علامة على الطفولةِ الحضارية ، وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ شعوباً اخرى ، شوراعها نظيفة ، ومواطنوها يضعون القمامة في صناديق خاصة بها ، ويحرصونَ على سلامة شوارعهم ... فانَّ هذا مؤشرٌ على النضج الحضاريِّ.
حينما يخرج مواطنونا في تظاهرات، وليس لديهم مطالب محددة ، ولاوضوح في الرؤية ، ولايفرقون بينَ النظام العام الذي يجب الحرص عليها ، والنظام السياسي الذي يعارض لاخطائه وفساده ، وليس معارضة من اجل المعارضة . حين يسمحون للموتورين والاعداء ان يركبوا موجة تظاهراتهم ، فهذا يعبّرُ عن طفولةٍ سياسيّةٍ في طرح المطالب ... وبالمقابل حينما ترد الحكومة بالرصاص على المتظاهرين السلميين ، ولاتتفهم مطالبهم ، ولاتفتح قنوات للحوار معهم ؛ فانّ ذلك يعبّرُ عن طفولةٍ سياسيّة لدى حكوماتنا في التعامل مع مطالبِ شعوبها.
وحينما تطرح المعارضة السياسيّة خطاباً سياسيّاً طائفياً تحريضياً ، وتثير الفتنةَ بين صفوفِ الشعب ؛ فان هذهِ المعارضةَ تعيش طفولةً سياسيّةً .
الحل لكلِّ مشكلاتنا وامراضنا ، هو ان نعبر من طفولتنا وانانيتنا الى افاق النضج الرحبة التي تمكننا من حلِ مشكلاتنا بطريقة الناضجين .