الاصحاب المنتجبين
يقول الأمام الحسين في وصف أصحابه بعد أن جمع أصحابه المنتجبين في مساء التاسوعاء من محرم فقال لهم { أمّا بَعْدُ، فَإنّي لا أعْلَمُ أصْحاباً أوْفَى وَلا خَيْراً مِنْ أصْحابي، وَلا أهْلَ بَيْتٍ أبَرَّ ولا أوْصَلَ مِنْ أهْلِ بَيْتِي، فَجَزاكُمْ اللهُ عَنِّي خَيْراً، ألا وَإنِّي لأظُنُّ أنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ لَنا مِنْ هَؤُلاءِ، ألا وَإنِّي قَدْ أذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَميعاً في حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذمامٌ، هذا الليل قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوه جَمَلاً }(1).
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي(عليهما السلام)واتبعته الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه. فقال الحسين عليه السلام: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم. قالوا: سبحان الله، فما يقول الناس؟! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا - خير الأعمام - ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك، ولكن (تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا)(2)، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنخلي(3)عنك ولما نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
وقام زهير بن القين البجلي - رحمة الله عليه - فقال والله! لوددت أني قتلت، ثم نشرت، ثم قتلت حتى أقتل على هذه ألف مرة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
وقام زهير يسمعه جميع أصحابه، ومن حضر من أهل بيت الحسين عليه السلام فقال: لقد سمعنا يا بن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها(4).
فعندما يشهد المؤمن الصالح الثقة شهادة حق تكون شهادته حجة على من يسمعها، ويكون لها الأثر الكبير في إحقاق الحق ودحض الباطل، وهذا ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة:
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: { إعْلَمْ أنَّ المُسْلِمينَ عُدولٌ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، إلاّ مَجْلوداً في حَدٍّ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، أوْ مَعْروفاً بِشَهادَةِ الزُّورِ، أوْ ظَنِيناً }(5).
وبناء على ما تقدم فشهادة الرجل المؤمن الصالح تكون شهادة ثقة ويأخذ بها ولنا خير مثال على الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت الأنصاري(رض) الذي لقب بذو الشهادتين الذي جعل رسول الله(صلى الله عليه وآله) شهادته كشهادة رجلين. فكيف إذا كان هذا الشاهد هو حجة الله تعالى في زمانه وسيد شباب أهل الجنة وإماماً معصوماً وبضعة من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟. والأمام الحسين(ع) أمام معصوم شهدت له بذلك آية التطهير وهذا يدل على صدق قول الإمام عليه السلام، ودقته كما يدل على أن شهادته شهادة حق لا زور فيها. ثم تأتي آية المودة التي تقول { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }(6).
وهذه الآية غير مقيدة بزمان ومكان وتدل ان الأمام الحسين لا يخرج عن مرضاة الله سبحانه وتعالى بأي قول أو فعل حتى يلقى الله عز وجل وهو راض عنه، وبالتالي قد لم يلزم الامة رجل ليس عنده صدق ولا مصداقية ولا دقه في كل افعاله واقواله(حاش الأمام الحسين من ذلك) وهذا محال.
ولنأتي الى احاديث رسول الله والتي تشهد لولده الإمام الحسين عليه السلام بصدق القول ودقته وصحة الفعل وعصمته من حديث السيادة في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
{ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة }(7). وغيرها الكثير من الأحاديث النبوية ولكن الأهم هو { حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط }(8). وإلاّ لو لم يكن كذلك لانخدشت هذه الأحاديث وللزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمدح باطلاً حاشاه عن ذلك أو يتكلم عن الهوى والعاطفة وهذا مخالف لصريح القرآن الكريم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)(9).
ومن هنا ذهب العلماء والفقهاء من الشيعة وحتى البعض من المذاهب الأخرى على أن الإمام الحسين عليه السلام محيط بمنزلة أصحاب جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأبيه المرتضى وأخيه المجتبى عليهما السلام، ومع ذلك صرح بهذا التصريح في حق أصحابه، وشهد لهم هذه الشهادة التي هي فخر وزينة لهم في الدنيا والآخرة.
فيتضح مما تقدم أن صفة الشهادة تجعل أصحاب الحسين عليه السلام أفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والحسن عليهما السلام وهي شهادة لا ترد. فيا لها من شهادة صادرة من إمام معصوم مطهر لا ريب فيها ولا خلل.
ولهذا كان إقدام أصحاب الإمام الحسين عليه السلام نحو نصرته نتيجة الإيمان واليقين بما عليه الإمام عليه السلام دون تردد أو شك. ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام عند قتالهم بين يديّ صاحبهم يشعرون بوجود نسبة من النجاة أما أصحاب الإمام الحسين عليه السلام قاتلوا بين يديه رغم يقينهم بعدم النجاة لأنهم مقتولين لامحالة في قتال المجرمين من جيش يزيد.
إن الإمام الحسين عليه السلام سرح أصحابه وجعلهم في حلٍ من بيعته إلاّ أنهم لم يتركوه ولم يخذلوه وهذا لم يحصل مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين أو الإمام الحسن عليهما السلام بل حصل العكس من ذلك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والإمام الحسن(عليهما السلام)يحثون أصحابهم على الجهاد ولم يرخصوا لهم تركه إلاّ أننا نجد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تركوه في حنين إلا عشرة أفراد كما ورد ذلك في كتب التاريخ وحتى في معركة أحد عندما طلب كبار الصحابة ومنهم الخليفة الثالث من أبو سفيان بعد انكسار جيش المسلمين ولم يبقى مع رسول الله(ص) إلا الأمام علي(ع) وابن نسيبة وام دجانه... وكتب التاريخ تشهد بذلك. ولذلك فأن اصحاب الحسين أوفى الأصحاب وهم أصحاب منتجبين كما تصفهم كتب التاريخ لأنهم لم يبالوا بالموت بل تقدموا وصدروهم مشرعة باتجاه جيش أبن سعد ولا يبالون بالموت دفاعاً عن أمام زمانهم وعن عيالات رسول الله والواحد منهم كان عند لحظاته الأخيرة يسلم على أمامه ويقول(السلام عليك يا أبا عبد الله)فأي ملحمة وخلود ذلك الذي يسطره هؤلاء الأصحاب المنتجبين في الذود والدفاع عن الأمام الحسين وعن الرسالة المحمدية والتي يجب أن تكتب بأحرف من نور في سفر التاريخ الخالد والذين استحقوا وبكل فخر هذا الخلود والرفعة والمنزلة التي لم يدانيها اي أحد من الأخرين. ولهذا جاء في الزيارة المأثورة لهم " بأنه طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم فوزاً عظيماً فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم ". ولهذا اكتسبوا الخلود والرفعة والمنزلة التي لا يدانيها أحد هذا الركب الحسيني الذي سينالون كرامة من الله جل وعلا في الشفاعة لمن يرضون له. وهم ليوث بواسل لا يخشون الموت برغم قلة العدد والناصر ولكن كانوا اسود يرتجزون في القتال ويخشاهم معسكر الظلام والاجرام من جيش ابن مرجانة وكانوا لا يقاتلونهم فرادي بل بالهجوم على الابطال جماعة بالسهام والسيوف والحجارة ومختلف الاسلحة لانهم كانوا يعرفون قوة هؤلاء الابطال. بينما نجد في معسكر أعدائه كلّ ألوان الرذيلة والانحطاط وتسافل البشر إلى حد تتبرأ منه الوحوش الكاسرة, وتستحي أن تنتمي لهذه المجموعة البشرية، ولهذا ورد اللعن على هؤلاء والأمر بالتبرّي منهم ومن أفعالهم. فالأصحاب المنتجبين ويقيناً أن الإمام المنتظر بحاجة إلى أنصار كأنصار جده الحسين (عليه السلام) فعلينا أن نعرف ما أوصافهم التي أهّلتهم حتى نالوا ذلك الشرف الرفيع, لعلّنا نتشبه بهم أو بعض صفاتهم لننال شرف نصرة الإمام الآتي (عجل الله فرجه الشريف) بعد أن حال بيننا الدهور وعاقنا عن نصر الإمام الحسين (عليه السلام) القدر المقدور، ومع ملاحظة أن تأريخ الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) شهد أن أصحاب الأنبياء والأئمة لا يكونون من نوع واحد فبعضهم مؤمن صحيح الإيمان والبعض الآخر منقلب على الأعقاب ومنهم المنافق الذي لم ير نور الإيمان قط لكن تظاهر بالإيمان ومنهم مريض القلب ومنهم... ومنهم..., ويستثنى من ذلك ساحة الطف فإنها شهدت لأصحاب سيد الشهداء (عليه السلام) بالإيمان والصدق والثبات ويكفينا في هذا المقام هو شهادته (عليه السلام) :- (فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيراُ) ، وقد وصفهم أحد قواد جيش الأعداء بقوله وهو عمر بن الحجاج(لعنه الله) في الناس يحرض مقاتلي جيشه على القتال: (يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوما مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنهم قليل وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم؟ فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، فأرسل في الناس من يعزم عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلا منهم.)(10).
وفي نص أخر يعترف قاتل أخر شارك في تلك الفجيعة وقد لامه البعض على ذلك فكان رده : (عضضت بالجندل أنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً وتلقي أنفسها على الموت لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيره فما كنا فاعلين لا أم لك )(11).
وفي الاخير يقول العلامة الشيخ باقر القريشي في وصف اصحاب الحسين " لقد تحدى أبو الأحرار ببسالته النادرة الطبيعة البشرية فسخر من الموت وهزأ من الحياة، وقد قال لأصحابه حينما مطرت عليه سهام الأعداء:
(( " قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فان هذه السهام رسل القوم إليكم... ".
لقد دعا أصحابه إلى الموت كأنما هو يدعوهم إلى مأدبة لذيذة، ولقد كانت لذيذة عنده حقا، لأنه هو ينازل الباطل ويرتسم له برهان ربه الذي هو مبدؤه ))(12).
وفي بعض الروايات يقول لهم يا كرام اي انهم كرام في الشهادة وصدق الشاعر حين قال : والجودُ بالنَّفْسِ أَقْصَى غايةِ الجُودِ
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.