دروس عملية في الفداء والتضحية الشاملة، والشموخ والسمو والعظمة والعزة والكرامة، والأخلاق النبيلة والإباء الرفيع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصمود والمقاومة، أعطتها نهضة عاشوراء وثورة الامام الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام في يوم الطف بكريلاء سنة 61 للهجرة بكل صدق وإيمان حيث قدم الغالي والنفيس على طبق الإخلاص الإلهي لإعادة الأمة الى الرسالة السماوية السمحاء دون تزييف وتحريف، ذلك الذي أنطلق من سقيفة بني ساعدة وأخذ بالمسلمين بعيداً عما بعث من أجله خاتم الرسل والأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأعادهم الى عصر القبلية الجاهلية المظلمة.
كان لابد أن تدوم هذه المدرسة الوضاءة والمنار الراسخ على طول الدهر ليتمسك به الأحرار والنبلاء والأباة من أبناء الأمة وغيرها أولئك الطالبين للعدل والعدالة والأخوة والتعاون والمساواة والاستقلال والحرية، في ظل أجواء البطش الأموي الإجرامي التكفيري الدموي حيث خيوطه باقية حتى يومنا هذا تسفك دماء الأبرياء وتعيث في البلاد والعباد والأمة والملة الفساد والتباهي والخذلان؛ فما كان من الامام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام إلا أن يحمل على عاتقه هذه المهمة الكبيرة إمتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى .
من هنا انطلقت مسيرة الامام علي بن الحسين (ع) في توعية الافكار المهجورة والمضللة وبرز بكل قوة على مسرح الحياة الاسلامية كألمع مفكر وداعية وسياسي إسلامي متصدي لتزوير وتزييف أبناء الطلقاء ووعاظ سلاطينهم حيث استطاع بمهارة فائقة أن ينهض بمهام الامامة وإدامة نهضة والده الامام الحسين (ع) حيث حقق انتصارات باهرة عبر خطبتيه اللتين القاهما في مجلس ابن زياد بالكوفة وامام الطاغية يزيد في الشام والتي كان لهما الأثر البالغ في إيقاظ الأمة وتحريرها من عوامل الخوف والارهاب والانحراف والتزييف والاعلام الموهم ليروي للناس كيف أن الحقيقة قتلت عطشى في كرب وبلاء وسلبت وذبحت من الوريد الى الوريد وداست الخيول صدرها بحوافرها لا ذنب لها سوى انها أرادت الاصلاح في أمة الرسول محمد (ص) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أمرنا بذلك الدين الاسلامي الحنيف.
عاصر الامام زين العابدين عليه السلام عصراً مليئياً بالرعب والارهاب والقمع والتنكيل ساد العالم الاسلامي بعد مجزرة الطف في العاشر من محرم الحرام عام 61، خاصة تلك المناطق التي يقطنها أهل البيت وشيعتهم كالمدينة في الحجاز والعراق؛ حكم أموي دموي سفاح إرهابي تكفيري مريق لدماء أهل البيت وشيعتهم وأنصارهم ومحبيهم، وهم يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر قاتل النفس الزكية ومداعب القردة حفيد هند آكلة الأكباد ذات الراية الحمراء (61ـ 64)، ثم عبد اللّه بن الزبير ـ (61ـ 73)، ومعاوية بن يزيد (بضعة شهور من عام 64)، ومروان بن الحكم (تسعة أشهر من عام 65)، وعبد الملك بن مروان ـ (65ـ 86) والوليد بن عبد الملك ـ (86ـ 96)، أولئك الذين عقدوا العزم على التضليل على الدين المحمدي الأصيل والثورة الحسينية الخالدة ثورة انتصار الدم على السيف.
فألبسوا فتاواهم حلة تكفيرية طائفية لتزحف الى كل شبر من الوطن الاسلامي وتأكل أخضر هذه الأمة ويابسها حتى يومنا هذا، وأضحى شعار الطائفة والمذهب والقومية التي نأى عنها الاسلام، هو الشعار المفضل عند الفئة الباغية الطاغية التي تقود الأمة سياسياً ودينياً، أخذة على عاتقها بأن لا ترحم الأمة ولا تراعي الحرمات والمقدسات وهو ما يشهده التاريخ منذ رزية الخميس وحتى عصرنا الحاضر، فئة لا يهمها أمر الدين ولا قدسيته وكل ما يهمها كرسي الحكم وسلطانه، وهو الأكثر امتطاءً من هؤلاء الذين أبتليت بهم الأمة لنشر الفتنة، وتفجير الأوضاع، وهدم وحدة الأمة، وتفتيت كيان الشعب الواحد، وتمزيق أشلائه، في كل مكان من سوريا وحتى مصر ومن لبنان وحتى البحرين مروراً بالعراق الجريح الذبيح الذي لم يبق من جسده إلا واستهدفته يد الغدر والنفاق والخيانة الأموية الصهيونية العربية العميلة.
الامام السجاد (ع) كان من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات، وظل يلقي الأضواء على معالم الثورة الحسينية، ويبث موجاتها على امتداد الزمن والتاريخ ، رغم كل ما استخدمته بني أمية من أنواع وأكثر الحيل لتضليل الرأي العام بسراب اعلامها وخديعته التي استوحت السذج من المسلمين وكان لابد من إظهار الحقيقة وتبيينها حتى لاولئك الذين تغافلوا عمداً لعدم معرفة أهداف الثورة الحسينية ودوافعها التي جاءت لاحياء الاسلام والسنة النبوية والسيرة العلوية وتوعية المسلمين وكشف الماهية الحقيقية للأمويين وإصلاح المجتمع واستنهاض الأمة لإنهاء استبداد بني أمية وتحرير ارادتها من حكم القهر والتسلّط وإزالة البدع والانحرافات واقامة الحق وتقوية أهله وتوفير القسط والعدالة الاجتماعية وتطبيق حكم الشريعة الصادقة عبر إنشاء مدرسة تربوية رفيعة وإعطاء المجتمع شخصيته ودوره.
رسم الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام الذي نعيش اليوم ذكرى إستشهاده المؤلم على يد الطاغية الأموي الجبار العنيد الظلوم الغشوم اسم الخليفة (المسعودي في مروج الذهب : 3 / 96)، القائل: "لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا" (رواه الزهري في كتاب حياة الإمام زين العابدين: 678)؛ معالم مدرسته الاسلامية ونهجه المقاوم للطغاة وفضح الظلم ونبذه والتصدي اليه على ضوء ما قاله والده الامام الحسين (ع) في يوم عاشوراء "هيهات منا الذلة" ولكن بأدعية عالية المضامين تستند كلها لوحي القرآن الحكيم وتعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الالهية، ابتداءً من معرفة الله سبحانه وتعالى، وإنتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الانسان المسلم في التوحيد والعدالة والمساواة كما وردت في "الصحيفة السجادية" في وقت كان العالم الاسلامي يمر بأصعب مراحله وحكم أعتى طغاته من بني أمية المجرمين.
نجح الامام علي بن الحسين (ع) في إبقاء نهضة عاشوراء حية ما بقي الدهر وبكلا شقيها "الحق المضيع والجسم المقطع" .. فاما الجسد المقطع فانتهت قضيته في يوم عاشوراء عندما ذبحت الحقيقة وقطعت أوصالها إرباً إربا وان بقي الجانب المأساوي له يلهب القلوب أسفا حتى قيام يوم الدين وتتجدد ذكراه كل عام .. لكن الحق المضيع هي القضية الأكثر خلوداً وبقا لأن الأمة ترى في الامام رمزاً للمبدأ الحر وروحاً لمحمد المصطفى (ص) وعلي المرتضى (ع) ذبح من الوريد الى الوريد مع أهل بيته وأصحابه الأبرار في سبيل الرسالة المحمدية الأصيلة.. وقدم الغالي والنفيس في سبيل اعلاء كلمة الحق كلمة الاسلام كلمة الله سبحانه وتعالى .. وأضحت مناراً لكل الأحرار والمظلومين في كل مكان ولهذا ترى الشعوب العالمية برمتها وبكل أديانها أن الامام الحسين عليه السلام منهاجا ثوريا متكاملا.. وسيبقى خالداً ما خلد الدهر.