أربعة عشر قرناً ينقصها عقدين من الزمن وآخر صرخة للامام الحسين عليه السلام في ظهر عاشوراء سنة 61 للهجرة، لا تزال تصدح وتدوي في سماء المعمورة تتلاقفها قلوب وعقول ومشاعر أحرار وأباة ومجاهدي ليس المسلمين فقط، بل وحسب كل واعي وعاقل ومحب للحرية والكرامة والانسانية والعزة والاستقلالية والعيش السليم، صرخة يهابها الطغاة والفجرة والفسقة من حكام الأمة وغيرها حيث ترفع إستنهاضاً لنصرة المظلومين والمستضعفين، تلك الصرخة التي كانت الشمس شاهداً قوياً على إنطلاقها في تلك اللحظة المفجعة والحزينة وهو عليه السلام واقفاًوحيداً فريدا تحيطه حشود عشرات الآلاف من جيش الفاسق الفاجر يزيد بن معاوية بن هند آكلة الأكباد؛ مطلقاً واعيته ومنادياً: "هل من ناصر ينصرنا أهل البيت؟..".. لتبقى صرخة تنبعث في كل جيل بنفس الحرارة التي أنبعثت بها يوم عاشوراء، وطرية تخاطب الضمائر الحية وتحفز النفوس الأبية مابقيت البشرية كل ما أنبعث يزيد في أي عصر جابهته صرخة الأمام الحسين (ع) ، لتنهار على الظلم والطغيان والجبروت أمام مطلقيها وتهزم المعتدين في ظلام الليل الدامس، وشواهد التاريخ كثيرة.
تعمد بنو أمية الطلقاء أبناء هند حاملة الراية الحمراء آكلة الأكباد، العبث في الأمة ومعتقداتها ودينها القويم وآخر رسالة السماء وأبو سفيان يناديهم "تلاقفوها يا بني أمية تلاقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار.."، فجعلوا قيادة الأمة التي أغتصبوها من وريثها السماوي، وراثية فيما بينهم من فاسق وجاهل الى آخر حتى بدأت الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية للأمة تنهار ورسالة السماء تتدحرج نحو الجاهلية القبلية مرة اخرى، ونقض العهود والمواثيق راكناً من رأس هرم السلطة الأموية بقيادة معاوية واضح وعريان على الملأ، فما كان من الامام الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام إلا أن ينبري منتفضاً ثائراً داعياً الى إصلاح الأمة والعودة الى القيم الاسلامية التي جاء بها جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، للعمل على تطبيق أسس العدالة الأجتماعية بين المسلمين للتخفيف من معاناة الضعفاء، وجاءت ثورته في عاشوراء لتستصرخ ضمير الأمة وأن تعي مسؤوليتها تجاه قيم السماء والمثل العليا التي جاهد الأسلام في تطبيقها على أرض الواقع.
وصية الامام الحسين عليه السلام لأخيه محمد ابن الحنفية دليل عظمة مبدأ قيامه ونهوضه أمام سلطة النفاق والكفر والجبروت الأموية، التي قال (ع) فيها: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين".. ومن قبل ذلك تصريحه الخطير في بيت الإمارة وفي حظيرة الحكم ورواق السلطة معلناً رأيه دون مبالاة ولا وجل ولا خوف، في رده على الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بكل جأش وشجاعة نادرة وإعتداد بالمبدأ وإستحكام في العقيدة وهو يقول: "أيها الأمير، إنا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالبيعة والخلافة"، هي خلاصة رسالة ثورة عاشوراء لسيد الشهداء عليه السلام.
النهضة الحسينية المباركة أعطت درساً كبيراً ومعنى عميقاً ففيها أنتصر الدم على السيف، بأهل بيته وأصحابه قليلي العدد والعدة كبيري المباديء والذين استشهدوا في هذه الثورة انتصارا مدويا وكبيرا على الكثرة الظالمة المتجبرة المجهزة بانواع الاسلحة والامكانيات. فكان لزاما على سيد شباب الجنة ان ينهض بدعوته الكبيرة لغرض رفع الحيف والظلم الذي حل على مباديء دين جده الرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم ومحاولة تشويه صورته الحقيقية وابعاده عن مبادئه العظيمة وانسانيته التي جاء بها الرسول الاعظم ليكون هاديا للبشرية ومنقذا لها من الظلم والجور ومهاوي الرذيلة الى الحياة الفاضلة التي تنال رضا الله سبحانه وتعالى وما ينتظر المؤمنين من جنان الخلد والنعيم في الاخرة.
ثورة الامام الحسين (ع) نقطة تحول كبيرة وأساسية في مسيرة الدين الاسلامي والرسالة السماوية . فلولاها لاستمر الانحراف عن طريق الاسلام الحقيقي يكبر ويتصاعد شيئا فشيئا دون رادع. ولأستمر الطغاة والفاسقين يعيثون في الارض جورا وظلما وفسادا والمسلمين المغلوبين على امرهم في حينها لاحول لهم ولاقوة في التصدي لهم وايقافهم عما هم عليه من ضلال وفسوق . ولكن هذه الثورة الكبرى اعادت للاسلام هيبته ورونقه ، لان العالم عرف بان هناك من يسعى لتصحيح مسيرة الاسلام وان الاسلام فيه الكثير من الرجال المؤمنين الرساليين الحقيقيين القادرين على تصحيح مسيرته وذلك يبقيه دينا حيا متجددا انسانيا هاديا للبشرية جمعاء.
وقفة الامام الحسين (ع) بوجه الطغمة الأموية، ليست وقفة ثأر وانتقام، وليست وقفة طمع دنيوي، وإنما وقفة رجل اصلاح بمعنى الكلمة. أراد لمجتمعه وامته حياة حرة ابية، بعيدة كل البعد عن حياة اللهو والهزل والعبث، لأن الحياة السرمدية الخالدة، هي حياة العلم والعبادة، وحياة العفة والنزاهة، وحياة الصدق والوفاء والاخلاق، وليست حياة الرق والعبودية، وحياة الذل والخزي والعار.
الإمام الحسين (عليه السلام) خطب خطبة ثانية بجيش عمر بن سعد يوم العاشر من المحرّم لإلقاء الحجّة، بعدما أخذ مصحفاً ونشره على رأسه، قال فيها: "..تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهِين، فأصرخناكم موجفين، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً إقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلْباً لأعدائكم على أوليائكم.. فسُحقاً لكم يا عبيد الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن.. ألا وإنّ الدعي بن الدعي، قدْ ركز بين أثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون.."، إن السِّلة هو إستلال السيف والمراد من قوله عليه السلام هو ان عدو الله قد جعلنا بين أثنتين بين أن نكون أذلاء ونعيش وبين أن نستل السيوف للدفاع عن دين الله ونستشهد؛ ثم عليه السلام لم يقل هيهات مني .. بل قال هيهات منّا الذلة لأنه أراد أن يؤسس لمدرسة يستحيل على أتباعها أن يكونوا أذلاء .. فتأملوا يا حسينيين!!.
اننا نستذكر تلك الملحمة البطولية الكبرى لسيد الشهداء وابي الاحرار الامام الحسين عليه السلام وبصورة متجددة ومتصاعدة عاما بعد آخر. فاتباع اهل البيت وانصار الحسين يزدادون عاما بعد عام وذكراه تتوهج في القلوب في كل سنة بدرجة اكبر من سابقتها والمؤمنون بقضية الحسين وعدالتها يتكاثرون. ولقد صدق من قال كذب الموت فالحسين مخلد كلما مر عليه الزمان ذكره يتجدد. حقا مااروعها من مقالة تترجم صورة حقيقية لثورة الحسين وانعكاساتها الماضية والحاضرة والمستقبلية على البشرية جمعاء.. لابد لنا أن نستذكر دائما بان الاسلام محمدي الوجود وعلوي الإنتشار وحسيني البقاء ومهدوي الإنبعاث.
ثورة عاشوراء هي ملحمة إنتصار الدم على السيف، حملت أهدافاً سامية لإحياء الإسلام المحمدي الأصيل، وتوعية المسلمين وكشف الماهية الحقيقية للأمويين، إحياء السنة النبوية والسيرة العلوية، وإصلاح المجتمع واستنهاض الأمة، وإنهاء إستبداد بني أمية على المسلمين، وتحرير إرادة الأمة من حكم القهر والتسلّط؛ وكذلك إقامة الحق وتقوية أهله، وتوفير القسط والعدالة الاجتماعية وتطبيق حكم الشريعة، وإزالة البدع والانحرافات الى جانب إنشاء مدرسة تربوية رفيعة وإعطاء المجتمع شخصيته ودوره الحيوي سياسياً وإجتماعياً ونهضوياً ضد الظلم والطغيان والتمييز الطائفي والعرقي والقومي، والامام الحسين يخطب في أنصاره ظهر عاشوراء بأرض الطف قائلا: "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما".
عاشوراء معركة الحق في مواجهة جحافل الباطل، ومعركة المظلومين في مواجهة الظالمين، ومعركة أصحاب الرسالة ضد المنافقين وجبابرة الزور والتزوير والتزييف والنفاق، انها معركة الرسالة في مواجهة دعاة ورسل الشيطان، وانها معركة من أجل حرية الانسان واعادة الحق الى نصابه؛ فهي ليست من أجل إستعادة الملك الذي يطبلون له، بل هي ثورة عز وكرامة وعودة الأمة لعبادة الله على الارض دون إكراه .
"غداً يتعلم الملايين من الحسين عليه السلام كيف يثبت القائد في ساحة المعركة، فلا يختبئ ولا يفرّ ولا ينهزم.. غداً يتعلم المسلمون والعالم من الحسين عليه السلام كيف يقدم القائد كل أولاده ليقتلوا دفاعاً عن أمته ودينه وقضيته.. غذاً يتعلم المسلمون من سيد الشهداء كيف يجود القائد بكل بكل ما عنده من أهل وولد وأصحاب وعرضٍ ونساءٍ ومالٍ عندما تصبح القضية قضية دين، وقضية أمة، وقضية شعب، وقضية كرامة.. هذا الاستاذ الملهم والذي سيبقى ملهماً الى قيام الساعة أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب أبن الزهراء حفيد محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله سلم"- الوعد الصادق السيد حسن نصر الله.
فاجعة كربلاء صرخة مدوية بلغت بصداها كل ضمير حي يتعطش للحياة الحرة كما ان صوتها الذي خرج من قلوب طيبة أحبت الناس واعطتهم كل ما تيسر لهم عطاؤه وبذلت في سبيل احقاق الحق ونصرة المظلومين كل ما تملك. ان هذا الصوت أقض الظالمين في مضاجعهم وهز عروش الطغاة والمستكبرين. فكان لابد لمثل هذه الحركة الثورية الدامية والزاخرة بالعديد من المواقف التضحوية النبيلة وما تمخضت عنها من مفاهيم وقيم إستنهاضية سامية.. ثورة ملهمة وعنفوانية وإستنهاضية، وبكل تفاصيلها، بأقوالها وحركاتها وبمواقفها ومشاهدها بأسبابها وأهدافها بنتائجها وآثارها، بأبطالها وشخصياتها، شهدائها وأعدائها.
لابد لنا أن نأخذ الامام الحسين(ع) في عقولنا فكراً يضيء الحق للناس، وفي قلوبنا حباً يطرد الحقد عن الناس، وفي حياتنا حركة تبقى مع الله عزوجل وفي خطه القویم، وآن نحبه حب الحق وحب الإسلام المحمدي الأصيل وحب العدل وحب الرسالة فستنفجر آنذاك دموعنا دون أية إثارات هنا وهناك، لأننا عندما نحب الامام الحسين(ع) بعمق فسنبكيه بعمق، نبكيه بدموع الرسالة، وبدموع القضية، وبدموع الولاء، وبدموع الحب.
علينا أن نبقي الامام الحسين(ع) في عقولنا في الدائرة الإسلامية الواسعة، وإذا كانت الدائرة الإسلامية الواسعة تنفتح على الدائرة الإنسانية الواسعة، فلأن الإسلام منفتح على الإنسانية كلها، وعند ذلك فإن الحسين(ع) لا يعيش في الجوّ الشيعي فقط، ولكنه ينفتح على الجو الإسلامي كله وعلى الجو الإنساني برمته، ومن هذا المنطلق نرى أن كبار قادة حركات التحرر في العالم إقتدوا بمدرسته وثورته وربحوا إستقلال بلدانهم ودحروا المحتلين وهزموا المعتدين.