في الجلسة العامة لمنتدى الشرق الاقتصادي بمدينة فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي (تمتد روسيا لمن لا يعلم على 11 خط طول، وتبلغ مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع)، تساءل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين: من بدأ الحرب في العراق، دون أي قرارات من هيئة الأمم المتحدة؟ من دمّر يوغوسلافيا، وشن حرباً في وسط أوروبا، وقصف بلغراد؟ من سحق ليبيا؟ أين كان القانون الدولي آنذاك؟
وأضيف على كلمات الرئيس الروسي، ومن دخل سوريا عنوة واقتدارا، وسرق نفطها، ولا يزال؟ ومن يقف وراء عجرفة وتبجح إسرائيل؟ ومن يشعل الوضع في أوكرانيا؟ ومن يضخ المزيد من الأسلحة رغبة منه في حرق المزيد من المواطنين الأوكرانيين في محرقة استنزاف روسيا، بينما نستمع يوميا إلى أرقام الضحايا، ممن يلقي بهم النظام في كييف في أتون ما يسمى بـ “الهجوم المضاد”، فقط لمجرد إثبات أن الأموال والأسلحة الأمريكية لا تذهب سدى، وإنما “نحرق بها مزيدا من جنودنا ومواطنينا!”.
تبادرت إلى ذهني هذه الفكرة بينما أقرأ بعض التحليلات، التي تزامنت مع بعضها البعض، لترسم صورة حملة موجهة، ربما مدفوعة الأجر، لتشويه صورة القوات الروسية العاملة على الأراضي السورية، وصورة روسيا في سوريا بشكل عام، حتى تذهب تلك التحليلات إلى الحديث عن “الخداع” و”التربح” و”التواطؤ” مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، و”الاستحواذ” على عقود النفط والغاز، بل و”السرقة” و”المشاركة في مكائد سياسية داخلية”، دون أن يسأل هؤلاء أنفسهم حول مصادر وآليات تمويل الجماعات الإرهابية التي اندست في مسار الحرب الأهلية السورية، وحول مسارات تهريب النفط من سوريا، والسلاح إلى سوريا، وحول العلاقات المشبوهة لا مع الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما، وبشكل غير مباشر، مع إسرائيل أيضا. لم ولا يسأل هؤلاء أنفسهم حول السبب في تعثر المفاوضات بشأن الدستور السوري، وجميع المحادثات بين النظام والمعارضة، بعد أن تغيرت اللجان والشخصيات وتبدلت التوجهات دون أن تتوحد تلك المعارضة على قيادة قادرة على خوض مفاوضات بأجندة واضحة ومحددة لتواجه النظام الذي يتخذ من ذلك ذريعة هو الآخر لعرقلة عملية الانتقال السياسي، فتراوح العملية السياسية مكانها دون أي تقدم، ويدفع الشعب السوري ثمن ذلك من أرواح أبنائه ومعاناتهم.
إن مهمة روسيا في سوريا كانت ولا زالت منذ اليوم الأول واضحة وضوح الشمس، وتمت في إطار قانوني يستند إلى شرعية القانون الدولي، وبدعوة رسمية من النظام الحاكم، الممثل الشرعي الوحيد، في عرف الأمم المتحدة، الجمهورية العربية السورية، ونجحت روسيا بمساعدة الجيش العربي السوري من الحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها، وأصبحت مهمتها الآن الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار وضمان أمن وسلامة مناطق التهدئة، انتظارا لما تتمخض عنه مفاوضات الانتقال السياسي السلمي بحسب قرار مجلس الأمن رقم 2254، فلا تريد روسيا الدخول في صدام عسكري لا مع الولايات المتحدة الأمريكية ولا مع إسرائيل على الأراضي السورية، وذلك لا يدخل ضمن نطاق مهامها أو اختصاصها. لكن من يحاولون تشويه هذا الدور الروسي، إنما يريدون العودة إما إلى الرعاية الغربية المنحازة ضد الدولة السورية، وليس ضد نظام الأسد، أو إلى الوضع السائل حيث تتدفق الأموال والأسلحة ويتحارب السوريون كما الأوكرانيون في محرقة الاستنزاف التي لن تفضي سوى إلى تشرذم الدولة السورية وتقسيمها، وهو ما لم يعد يتحمله العالم، ولا تتحمله حتى القوى الغربية نفسها.
فالعالم الجديد، والذي يغادر هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية إلى عالم جديد يحترم القوانين الدولية وقرارات هيئة الأمم المتحدة في حل القضايا العالقة واحترام سيادة البلدان وحق شعوبها في تقرير مصيرها، هذا العالم لم يعد يمتلك نفس الموارد التي كان يمتلكها من قبل، في ظل أزمة اقتصادية عالمية طاحنة تلوح في الأفق، وفي ظل تغيرات تكتونية حلت بالنظام العالمي الهش بسبب إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على عرقلة مسيرة التحولات للانتقال إلى العالم الجديد، الذي يسمح لجميع البلدان بالمشاركة المتساوية في مستقبل أفضل تسوده العدالة.
إن الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية يخلقان وضعاً إنسانياً شديد الصعوبة على الشعب السوري، إلا أن السبب الرئيسي يكمن في التناحر بين القوى السياسية التي تقود المشهد السياسي. ولن يخدم تشويه الدور الروسي في الوقت الراهن سوى أصحاب توجه بعينه يبتعد كل البعد عن مصلحة الدولة السورية والشعب السوري.
إن تلك الحملة المشبوهة تثبت أن ما تواجهه روسيا اليوم من حرب عالمية بأياد أوكرانية تساعدها أياد أخرى من مناطق أخرى في العالم تسعى للتشبث بالنظام العالمي الراهن، خوفا من أجواء دولية جديدة يمكن أن تطيح بمصالحهم، وخوفا من إنهاء الهيمنة الأمريكية، والتبعية للسيد الأمريكي.. فالمازوشية يمكن أن تمتزج بمتلازمة ستوكهولم (ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مع من أساء إليه بشكل من الأشكال)، وهو ما يظهر في تصرفات بعض الشخصيات السورية ويتضح في مقالاتهم التي ظهرت مؤخرا وقد بنيت على الأكاذيب والحقد ضد روسيا والدور الروسي في سوريا، وكأن هؤلاء على استعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل أن يبقون تحت سيطرة الكاوبوي الأمريكي الذي يعد بأوهام “الحرية” و”الديمقراطية” على الطريقة الأمريكية. نفس الكاوبوي الذي يمتطي تلك الأوهام ويقف وراء الاعتداءات الإسرائيلية ويدعمها، ونفس الوهم الذي دمر منطقة الشرق الأوسط، وغزا العراق، وقصف ليبيا.
أرى أن يكون السعي لتوحيد الشعب السوري أمام الخطر الوجودي الذي يهدده، كما توحد الشعب الروسي حول العملية العسكرية الروسية الخاصة دفاعا عن دونباس، ومن أجل مواجهة خطر النازية الجديدة التي تجتاح أوكرانيا، فما أحوج سوريا الآن إلى ذلك لإنقاذ البلاد والعباد بدلا من دس السم في العسل وإلقاء اللوم على اليد التي تساعد في هذه الظروف الصعبة.