تبدو التصريحات الفرنسية بشأن إنشاء “لجنة مؤرخين مشتركة” بين فرنسا والجزائر متفائلة وتدعو إلى الأمل في تجاوز الماضي المشترك “المعقّد والمؤلم” على حد تعبير الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
وبينما سيكون هدف هذه اللجنة “النظر في كامل تلك الفترة التاريخية، منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير، دون محظورات”، إلا أن تصريحات الرئيس ماكرون بشكل عام تميل إلى المبالغة في قدراته الشخصية أولاً، وإمكانيات فرنسا ثانياً. فتجاوز الفترة المؤلمة ومئات الآلاف من ضحايا العنف والقمع والقتل قد لا يكون بسهولة إطلاق التصريحات وإنشاء اللجان، حتى ولو كانت هذه اللجان ستعمل “دون محظورات”، فالأمر أعمق من ذلك بكثير. ولا شك أن رفض ماكرون/فرنسا الاعتذار للجزائر هو أبلغ دليل على موقف فرنسا الحقيقي من “الاستعمار”، استنادا لأصل الفعل العربي، الذي يحمل بداخله مضمون التطوير والتنمية ورفع مستوى الشعوب العربية “المتخلّفة”، والتي بدفاعها عن الحرية، ترفض هذا “التقدم الغربي”، بحثا عن الاستقلال والسيادة. هنا جوهر المشكلة، ما بين الشمال “المتحضر” والجنوب الذي اخترعوا له اسم “النامي”، بدلا من “المتخلّف”، دون أن يتغيّر الموقف من هذا الجنوب، الذي احتل الشمال أراضيه واستغل موارده واستعبد شعوبه لعقود طويلة، وفرض عليها ثقافته ولغته، ويأتي اليوم، بعد أن كدّس تلك الموارد وحولها لصناعات وتكنولوجيات وآليات تجارية واقتصادية وعلاقات تصب في اتجاه واحد، ليقول لنا: دعونا نطوي صفحة الماضي، ونؤسس لشراكات وعلاقات جديدة، ولنكتب تاريخا جديدا لعلاقتنا “المؤلمة والمعقدة”.
يأتي ذلك بالتزامن مع مواقف مخزية من القضية الفلسطينية، ويأتي بالتزامن مع ضغط على الدول النامية والفقيرة لاتخاذ إجراءات تجاه العقوبات ضد روسيا، والتصويت على قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ويأتي بالتزامن مع خروج لفرنسا من إفريقيا بعد أن ارتفعت التكلفة الإنسانية والمادية لأعلى من الأسقف المسموحة لإنسان الشمال/الغرب “الأبيض المتحضر”، الذي أخذ ما يريده من موارد إنسان الجنوب/الشرق “الأسود المتخلّف”، ولم يعد قادراً على دفع مزيد من التكلفة.
إلا أن ذلك يرتبط في الوقت نفسه بتكاليف جديدة تقع اليوم على عاتق الغرب الأوروبي تجاه الأزمة الأوكرانية، وأزمات اقتصادية طاحنة تعصف بالدول الغربية الكبرى جراء فقدانها التام لإرادتها السياسية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدير حربا بالوكالة مع روسيا، باستخدام الدمية الأوكرانية. لتصبح الدول الأوروبية ملزمة جميعاً بدفع تكلفة هذه الحرب، والعودة مرة أخرى إلى الأصدقاء “القدامى”، طلبا لعقود الغاز، وغيرها من الموارد، لتعويض ارتفاع التكلفة المادية على أقل تقدير. أما البشرية، فلدى أوكرانيا من “علف المدافع”، ما يكفي لاستمرار الأزمة سنوات، طالما استمر ضخ الأسلحة الغربية إلى هناك حتى آخر مواطن أوكراني.
تحوّل أوروبا “المتحضرة” طاقاتها ومواردها وجهة الشرق صاغرة ذليلة، لتحارب طواحين الهواء التي يرسمها لها السيد الأمريكي، وتضع دولة ضخمة بحجم أوكرانيا (603 ألف و700 كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة ألمانيا، وأكبر من مساحة فرنسا)، وسكانها 44 مليون نسمة، رهن إشارة صغيرة بالهاتف من واشنطن.
في حوار لوزير الخارجية الأوكراني، دميتري كوليبا، مع الصحفي الأوكراني، دميتري غوردون، يحكي الوزير عن تفاصيل رحلته إلى واشنطن، عشية بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، نهاية فبراير الماضي. ويحكي عن لقائه بالرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي يصفه بالتاريخي والفارق، فيقول إنه كان في السيارة بصحبة السفيرة الأوكرانية لدى واشنطن، أوكسانا ماكاروفا، التي تلقت مكالمة هاتفية من البيت الأبيض، يسألون حول إمكانية أن يكون الوزير الأوكراني كوليبا موجودا في البيت الأبيض خلال نصف ساعة، ليهرع الوزير ومعه سفيرته لدى واشنطن إلى البيت الأبيض، وهناك لم يكن متأكدا من لقائه الرئيس، وحينما التقاه كان ذلك بمثابة مكافأة لم يكن يحلم بها الوزير، بعد أن أدى ورئيسه الممثل الكوميدي، فلاديمير زيلينسكي، جميع المهام الموكلة إليهما، ووضعوا أوكرانيا حينها على أعتاب حرب، لا زالت تتكشف فصولها أمام أعيننا حتى اليوم.
وحينما يتحدث كوليبا عما يراه “نصراً” أوكرانياً في القدرة على مقاومة روسيا، يتحدث عن “حصار” روسيا، وعما نجحت الإدارة الأوكرانية “بمساعدة الأصدقاء” في التوصل إليه من “عقوبات” ضد روسيا، دون أن ينبس ببنت شفه عن أوكرانيا، ووضع الشعب الأوكراني، وتاريخ البلد العريق الذي لطخه هؤلاء، ممن يعيدون اليوم كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية، ويقفون في صف النازية جهاراً نهاراً دونما حياء.
إن من بين فصول إعادة كتابة التاريخ كذلك ما نراه متجسدا أمام أعيننا في دول البلطيق، التي تفتخر بإزالة النصب التذكارية لأبطال الحرب، ممن حرروا بلادهم من النازية، وذلك بالطبع بعد أن أزال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، اسم الاتحاد السوفيتي من احتفال العالم بمرور 75 عاما على النصر على النازية، هكذا وبكل بساطة، وكأن الاتحاد السوفيتي لم يبذل من حياة أبنائه بـ 27 مليون مواطن في سبيل تحرير أوروبا من النازية في أكبر حرب عرفتها البشرية.
اليوم يأتي ماكرون إلى إفريقيا في محاولة جديدة من الغرب الأوروبي لكتابة تاريخ جديد، إلا أن الوضع العالمي الراهن لم يعد كما كان قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تصارع بكل ما تملك من وسائل وحلفاء وأصدقاء للإبقاء على العالم أحادي القطب، وتلقي بالجميع في محرقة العقوبات الروسية، دون أدنى اعتبار لمصالح الدول أو لأمن واستقرار الشعوب، ولا حتى لامتلاك المواطن الأوروبي لأبسط حقوقه في التدفئة المستقرة والمستدامة خلال فصل الشتاء المقبل. يحدثنا ماكرون، في وقت سابق، كما يحدثنا أسياده في واشنطن، عن “ثمن الحرية”، الذي يجب أن تدفعه الشعوب، لا من قوتها ومواردها فحسب، وإنما من قوت وموارد “الأصدقاء القدامى”، أو بالأحرى “المستعمرات القديمة”، التي يعود إليها اليوم ماكرون لإنشاء “لجنة مؤرخين مشتركة” لإعادة كتابة التاريخ، كما أعادت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية النازية المقيتة إلى المشهد الأوكراني والأوروبي في أبشع صورها.
بعد ماكرون، وبالتحديد في مطلع نوفمبر المقبل، ستستضيف الجزائر القمة العربية، بعد تأجيل عمره 3 سنوات، على أمل أن تعود دمشق إلى مقعدها في الدورة العادية الـ 31 للقمة العربية، كما تنعقد الآمال كذلك على أن تتمخض هذه القمة المرتقبة عن مواقف واضحة ومحددة بشأن موضع الدول العربية من القضايا الإقليمية والدولية، خاصة فيما يخص قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، وموقف عدم الانحياز في القضية الأوكرانية، على الرغم من الضغوط الغربية الحثيثة على الكتلة العربية.
ننتظر من القمة أن توجه رسالة إلى جميع زعماء ودول العالم بأن أي محادثات مستقبلية أو مشاورات على مستوى أي من دول العالم العربي ستحمل في صدارة أولوياتها مبادرات من جانب العرب لمناقشة القضية الفلسطينية، وسبل التوصل إلى حل شامل وعادل لها، تتضمن الإشارة إلى موقف موحد بشأن القضية.
إن عدد الدول التي لا زالت تتشبث بالعالم أحادي القطبية، وتدافع عنه بشراسة يقل يوماً وراء يوم، بينما يراقب العالم كيف تنازلت الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها بعد أصدقائها، وبينما شهد العالم، على نطاق واسع، مقاطع الفيديو والصور المؤلمة من مطار كابول، بينما تهرب القوات الأمريكية من الشعب الذي حاولت السيطرة عليه لعقدين من الزمان، ويتشبث بعض أبنائه من الفقراء والمعدمين بأجنحة الطائرة المقلعة نحو “جنة الغرب الحرة الديمقراطية”، فيتساقطون قتلى للوهم الذي زرعته الولايات المتحدة لعشرين عاماً.
إنها مشاهد لا ولن تمحى من ذاكرة البشرية سريعاً، لا سيما فيما نعيشه اليوم من تغير سريع وعنيف في المشهد الراهن، حيث تعيد روسيا، مرة أخرى، وبمساعدة المجتمع الدولي الحقيقي، الذي سئم النظام العالمي أحادي القطبية، وبمساعدة الشعوب الصديقة، والدول المستقلة ذات الإرادة السياسية الحرة، كتابة التاريخ مجددا، لتمحو عقودا من الإذعان والإملاءات وفرض الإرادة السياسية والانقلابات والثورات الملونة وسائر الألعاب السياسية الرديئة التي كانت ولا زالت الولايات المتحدة الأمريكية تلجأ إليها، من إثارة للخلافات العرقية والطائفية والسياسية، تحت مسمى “الحرية والديمقراطية”.
لا يساورني شك في أن شمس العالم الجديد متعدد القطبية سوف تشرق غداً، وتضيء للأجيال المقبلة آفاقاً رحبة للحرية والأمل والعدالة.