يهل علينا شهر رمضان هو شهر فضيل وشهر طاعة وعبادة فيه تتقبل كل أعمال الصائم وبأضعاف مضاعفة ، ومن هنا جاء في الحديث القدسي: { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » (1).
وهذا الحديث القدسي يشرح معنى الصيام في أن الله سبحانه وتعالى هو وحدة من يجزي العبد عن صيامه وهي هبة وهبها جل وعلا إلى عبادة المؤمنين الصائمين ولو تقصينا في مفهوم هذا الحديث العظيم، فمن المعلوم أن أعمال أبن آدم يجري عليها الحساب والقصاص فيما بينه وبين المظلومين، وأن المظلومين يقتصون من الظالم يوم القيامة ويتم ذلك بأخذ من اعماله وحسناته كما في الحديث " أن الرجل يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة أمثال الجبال ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا أو أكل مال هذا ، فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته ، حتى إذا فنيت حسناته ولم يبق شيء ، فإنه يؤخذ من سيئات المظلومين وتطرح عليه ويطرح في النار "(2).
ففي يوم القيامة وهو يوم الحساب، فيكون الحساب شامل لظلم العبد نفسه، ظلمه لغيره من الناس، والخيبة الكبرى الذي يقع في ظلم الناس، لأن القصاص في ذلك اليوم المشهود لا يكونُ بالمالِ ولا السجنِ ولا غير ذلك، بل يكونُ بالحسناتِ والسيئاتِ، قال تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }(3).
، وقال رسول الله(صل الله عليه وآله): « مَنْ كانتْ له مظلمةٌ لأخيهِ مِنْ عِرْضِهِ أو شيءٍ فَلْيَتَحَلَّله مِنْهُ اليومَ قبلَ أنْ لا يكونَ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إن كان لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ منه قَدْرَ مظلمته، وإنْ لم تكنْ له حسناتٌ أُخذَ من سيئاتِ صاحبه فحُمِلَ عليه » (4) .
وقال رسول الله(صل الله عليه وآله)): « أتدرونَ مَنِ المُفْلُس؟ » قالوا: المفلسُ فينا مَنْ لا دِرْهَمَ له ولا مَتَاعَ، فقال: « إنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتمَ هـذا، وقذفَ هـذا، وأكلَ مالَ هـذا وسفكَ دمَ هـذا، وضربَ هـذا، فيُعْطَى هـذا مِنْ حسناته، وهـذا مِنْ حسناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يَقْضِي ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النَّارِ » (5).
ألا الصيام فأنه لا يؤخذ منه الى الغرماء أو المظلومين وإنما يدخره الله عز وجل للذي يقوم به من صوم وعبادة في شهر رمضان الكريم ويجزيه به الجزاء الأوفى ولهذا جاء في حديث آخر قوله : « كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » أي أن أعمال بني آدم يجري فيها القصاص ويأخذها الغرماء يوم القيامة إذا كان ظلمهم إلا الصيام ، فإن الله يحفظه ولا يتسلط عليه الغرماء ويكون لصاحبه عند الله عز وجل ، كما جاء في تفاسير أخرى ان الصوم هو عمل باطني قلبي لا يعلمه الا الله تعالى فهو نية قلبية بخلاف سائر الأعمال الأخرى فهي ظاهرية وترى من قبل الناس، لأن الصيام هو عمل سري بين العبد الصائم وبين ربه عز وجل ولهذا يقول : « الصوم لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي » وكونه ترك شهوته وطعامه من أجل الله هذا عمل باطني ونية خفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، بخلاف الصدقة مثلًا والصلاة والحج والأعمال الظاهرة ، هذه يراها الناس أما الصيام فلا يراه أحد ؛ لأنه ليس معنى الصيام ترك الطعام والشراب فقط أو ترك المفطرات لكن مع ذلك لا بد أن يكون خالصًا لله عز وجل ، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ويكون قوله: إنه ترك… إلى آخره تفسيرًا لقوله: « الصوم لي وأنا أجزي به » .
وهناك من يفسر الصوم أنه عبادة ليس فيها شرك من خلال قوله تعالى « الصوم لي وأنا أجزي به »، بينما باقي الاعمال يمكن ان يدخل فيها الشرك فأن المشركين كانوا يقدمون الذبح والنذر الى غير ذلك الى معبوداتهم، حيث كان الكثير من المشركين يتقربون إلى الأصنام بهذه الأعمال بخلاف الصوم، فلم يذكر التاريخ أن المشركين كانوا يصومون لأوثانهم ولمعبوداتهم فالصوم إنما هو خاص لله عز وجل فعلى هذا يكون معنى قوله: « الصوم لي وأنا أجزي به » أنه لا يدخله شرك ؛ لأنه لم يكن المشركون يتقربون به إلى أوثانهم وإنما يتقرب العبد بالصوم إلى الله عز وجل.
ومن هنا كان الصوم هو جنة من النار أي خلاص من جهنم وبأسرع السبل الى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى لأن من يقوم الجزاء على الصيام هو رب السماوات والأرض وهو الرحمن الرحيم واللطيف على عباده والرؤوف بهم، ولهذا الاتصاف بالرحمة واللطف هي السمة المميزة الى الله تعالى ، والتي تحتاج عبادة الصوم العظيمة إلى مؤشرات مهمة ينبغي التوقف عندها ، والتي سنلقي الأضواء عليها في جزئنا القادم أن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ رواه الإمام البخاري في صحيحه ج2 ص226 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه].
2 ـ [انظر صحيح الإمام مسلم ج4 ص1997 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
3 ـ [ طـه : 111 ].
4 ـ الراوي : أبو هريرة : أخرجه البخاري (6534).
5 ـ الراوي : أبو هريرة | المحدث : مسلم. الصفحة أو الرقم : 2581.