البعثة النبوية.. بشائر خير ونجاة وهداية للبشرية /جمیل ظاهري

الثلاثاء - 01/03/2022 - 11:00
البعثة النبوية.. بشائر خير ونجاة وهداية للبشرية  /جمیل ظاهري

 

لو استنطقنا سجل التاريخ وقرأنا صفحاته وآثاره قراءة تحليلية واعية، واستقرأنا آيات القرآن الكريم، بتعمق وفهم وتفسير حقيقي مستدل مستند موثق ومعرفة طبيعة المجتمع وتكوينه النفسي والاقتصادي والثقافي والعقائدي والاجتماعي، ووقفنا على أسباب نزول الآيات المباركة التي تحدثت عن أوضاع العرب وطبيعة أصحاب الديانات السماوية والوثنية في العالم برمته آنذاك، وما وصلت إليه من تردّ وسقوط، نكتشف بوضوح الصورة المأساوية والأوضاع المتخلفة التي كان يعيشها العالم الجاهلي من الجزيرة العربية حتى أبعد نقطة على وجه الأرض شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً.
كانت البشرية قبل بعثة خاتم النبيين ورحمة للعالمين البشير النذير رسول المحبة والمودة محمد صل الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين، والتي نحيي هذه الايام ذكراها الغالية، تعيش الضلالة والجهل والشرك والالحاد التام خاصة مجتمعات الجزيرة العربية التي كانت غارقة في الانحطاط، وتحتاج الى من ينقذها وينتشلها مما هي فيه.. فقد كان الجهل فاشياً، والظلم جاثماً، والفوضى ضاربة بأطنابها في كل مكان، حقوق مسلوبة، وأعراض منتهكة، وحياة بغير نظام ولا قانون، ولا تشريع ولا تنظيم، سوى بعض العادات، والأعراف القبلية تسيطر على الأوضاع، فالأمن كان مفقوداً، والسلب والنهب أمراً معهوداً، حياة لا أمان فيها ولا استقرار، فالمقيم مهدد بالضرر، والمسافر في وجل وخطر.
ثم كان القتل والنهب واعتداء القوي على الضعيف، وسلطة القبيلة وتسلط الأسياد والأقوياء على الفقراء والعبيد، وكانت الحروب تنشأ لأتفه الأسباب، فتزهق النفوس، وترمل النساء، وييتم الأطفال وعبادة الأصنام والأوثان والجن والنجوم والملائكة، وقليل منهم كانوا على دين إبراهيم(ع) أو المسيح (ع)، رغم أن مكة كانت بلد التوحيد، ومنطلق الإيمان أيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اللذان بعثا قبل بعثة نبينا محمد (ص) بأربعة آلاف سنة تقريباً.
حياة وضعية مزرية، مليئة بالرعب والخوف والفقر والفزع والبؤس والفسق والفجور، تطغوا عليها المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي المتدني؛ ذكرها بقوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) قريش/ 3 ـ 4.. واستعرضتها ببساطة وصورتها بأفضل صورها وقربتها للأذهان المريضة والحاقدة على رسالة السلام المحمدي الأصيل، سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام خلال خطبتها الفديكة المعروفة والتي قالت في جانبها: "ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِالدِّينِ الْجَلِيِّ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارْتِغاءٍ، وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْخَمَرِ وَالْضَّراءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلى مِثْلِ حَزِّ الْمُدى، وَوَخْزِ السِّنانِ فِي الحَشا، وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ ألاّ ارْثَ لَنا، {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أفَلا تَعْلَمُونَ؟ بَلى تَجَلّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضّاحِيَةِ أنِّى ابْنَتُهُ" - [فتوح البلدان، ج1، ص35؛ المغانم المطالب، ص 312؛ عمدة الأخبار، ص394؛ وفاء الوفاء، ج3، ص999؛ معجم البلدان ج4، ص238؛ كتاب بلاغات النساء لابن طيفور، ص:23، والاحتجاج، ج:1، من ص:97 الى ص:107؛ مسند فاطمة، ص:557؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج :16، ص:211ـ249؛ وعوالم الزهراء، ص:467؛ والمجلسي في بحار الأنوار، ج 8، ص: 114وج:43، ص:148].
أما المرأة فكانت تعاني حياة البؤس والشقاء، وتُعامل معاملة الحيوانات والمتاع، فلا حقوق لها ولا كرامة، بل ولا يسمح لها أنْ تعيش على سطح هذه الأرض، تلك الظاهرة البشعة التي أشار إليها القرآن الكريم: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً) النساء/ 22.. ثم يرفع القرآن الكريم صوته مرة أخرى مدافعاً عن انسانية المرأة وكرامتها: (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت) التكوير/ 8 ـ 9.
وليست هذه الصورة الإباحية الحيوانية هي أبشع صور الانحطاط الجنسي، بل وكانت هناك الأحياء الخاص بالبغايا اللواتي يرفعن الأعلام الحمراء، ويحترفن البغاء، وفي مقدمتهم هند آكلة الأكباد، فكانت العرب تسميهن بذوات الأعلام، بل كان البعض منهم يحترف الاكتساب بالبغايا، فيشتري الجواري ويسخرهن للعمل بالزنا وكسب المال من هذه الممارسة الجنسية... ولقد تحدث القرآن عن هذه الظاهرة بعدة آيات منها: (محصنين غير مسافحين) النساء/ 24، (والزانية لا ينكحها إلا زان) النور/ 3، (ولا متخذات أخدان) النساء/ 25، (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً) النور/ 33.
هكذا تتجسد طبيعة ذلك المجتمع العربي الجاهلي المتخلف، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر بن أبي طالب في حديثه للنجاشي ملك الحبشة بقوله: «أيها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نُشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام».
عندما نعرف هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم الإسلام وعظمة نبي الإسلام الهادي محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله وصحبه الميامين، والذي استطاع بمشيئة ولطف إلاهيين أن ينقذ البشرية، ويعضها على طريق المدنية والاستقامة السلوكية، مبتدئاً بمن حوله من عرب الجهالة والضلالة والقبلية، وممتداً برسالته العالمية التي حملتها من بعده أمته، وبشّر بها الدعاة إلى الله سبحانه في كل مكان، وهي اليوم قوة حضارية، ورسالة الإنسان المتحضر والعقل العلمي المتحرر من سيطرة المادية والشهوانية المنحرفة، وملجأ الإنسان ومشروعه الحضاري المؤمّل. وصدق الله الذي وصف رسالة نبيه بقوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله مَن اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة/ 15 ـ 16، وكذا (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف/ 157، ثم (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال/ 24.
ففي ظل تلك الظروف وتلك الأوضاع المأساوية والوحشية البشعة، وبعد فترة من انقطاع الرسل بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على رأس الأربعين من عمره؛ حيث جاءه جبريل وهو في غار حراء بأول ما نزل من القرآن، فقرأ عليه قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق - العلق :1)، ثم توالى نزول القرآن - الكتاب الخاتم - وبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته على مراتب خمس كما ذكر ذلك ابن القيم-رحمه الله- في كتابه «زاد المعاد»: المرتبة الأولى: النبوة، والثانية: إنذار عشيرته الأقربين، والثالثة: إنذار قومه، والرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة، والخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس الى آخر الدهر.