اعتاد العرب على خسارة الكفاءات ، العلمية والأدبية ، وفي جميع المجالات ، حتى إذا ما غادر الدنيا ذكره بعض الذاكرين بخير ، وتحسر عليه الأخرين ، هذه الظاهرة لا تخص العرب وحدهم بل تشمل جميع الامم والشعوب ، لكن العرب ربما لهم قصب السبق في هذا المضمار ، بدءاً من بدايات انتشار الاسلام وحتى هذه اللحظة .
كثيراً من ذوي العلم والكلام وأرباب الأقلام زجوا في السجون والمعتقلات والمطامير ، عانوا من التعذيب والتهميش ، لا لشيء إلا لانهم يحملون قيماً انسانية ، عبروا عنها بطريقة أو بأخرى ، لكن هذا لم ينل استحسان وقبول الحاكم ، فبنى أبشع السجون ليملئها بهم واستأجر أو وظّف أبشع السجانين لتعذيبهم فيها ، تنكيلاً بهم وأملاً أن يكفوا عن طريقهم الذي خطوه بفكرهم وثقافتهم أو لعلهم يسكتوا ويصمتوا ، أو لعلهم يحولوا مهاراتهم الفكرية في مصلحة الحاكم ، فينالوا منه الحظوة والقبول ، لكن هيهات أن تلتقي القيم الانسانية الرفيعة مع حاكم ظالم ومتجبر.
تمسكوا بعقائدهم وفكرهم وما آمنوا به ، واستمر الحاكم بغطرسته والتنكيل بهم ، كلما ازدادوا تمسكاً بعقيدتهم ازدادوا ألماً الى ألمهم ، واستمر تنكيل الانسان بأخيه الانسان ، لمخالفته الرأي والمعتقد ، وأحياناً البصيرة ، يخفت الانسان في قلب الحاكم ويطفح الوحش بدواخله ، جامحاً ، هائجاً ، لا يردعه رادع ، وهو يرى عقدة النقص تملأ ذاته ، عقدة لا يراها الا في من خفت الوحش بدواخلهم وطفحت انسانيتهم ، فشعر بالتهديد والرعب منهم ، بعد أن رأى منهم الصلابة والقوة والعزيمة التي لا تلين ، رغم كل ذلك القهر والتعذيب .
الانسان بإنسانيته الدافقة يمكنه تحمل المزيد من الألم والوجع ، بل كلما ازداد ألماً ازداد تمسكاً بجانبه الانساني ، لا يعبأ للثمن أو الضريبة التي سيدفعها ، أقصاها حياته ، وأقلها الإقامة في السجون ، لكن اسمه ، فكره ، إيمانه ، عقيدته ، كل ذاك سيبقى ، لا يموت بموته ، ولا يحد بسجنه ، فالفكرة كالبذرة ، تنمو عندما تجد التربة الخصبة وماء السقي والسماد الذي يكون دم صاحبها في كثير من الأحيان.
موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام لم يعش لنفسه قط ، كانت حياته لله ، وفي سبيل الله ، لم يركن للدنيا قط ولم يفكر فيها إلا في حدود بناء الجسد وحاجته التي تقومه ، عظم الله في قلبه فهانت عليه الدنيا بكل ما فيها ، وصغر في عينه الحاكم المستبد الذي يرى لنفسه ما يرى من العظمة والغرور بالسلطة والسطوة والتباهي بالملك والمنعة والتفاخر بالجيش والحرس الشديد ، لم يجامله ولم يظهر له ما كان يطمع ان يراه في جميع افراد مملكته ، كان عزيز النفس منيعاً بإيمانه مستغرقاً في ذات الله في كل أفعاله واقواله ، تجري الحكمة في منطقه ويتدفق العلم من جوانبه ، علم غزير كالبحر ، فما كان من الحاكم (هارون الرشيد) الا ان يستميله في بوادئ الأمور ، لكن الرد كان حازماً ، لا للظلم ، لا للإجحاف ، الاسلام دين رحمة وعدالة ، بينما انت يا حاكم تحكم بالنار والحديد ، لا لفضيلة منك سبقت ولا لحق منك على المسلمين ، استأثرت بالحكم على الرقاب ، التي قطعت منها الكثير ممن خالفوك الرأي وسلكوا طريق الحق والحقيقة .
ثاني أسلوب من الحاكم المتجبر هو اللجوء الى ما عرف به واشتهر ، السجن في طامورة الظلام ، المعدة للخصوم الاشداء ، لا تنفذ لها أشعة الشمس ولا ترى النور ، إلا نور روادها ونازليها ، مستعيناً بأبشع السجانين للتنكيل بهم .
عندما يظهر الانسان الوحوش التي بدواخله سيكون أبشع من سائر الوحوش التي عرفناها ، وحش الأنانية ، وحش الملك ، وحش الثروة ، وحش السلطة ، وغيرها الكثير جميعها في انسان واحد ، إن اطلقت افترست لحوم البشر وشربت دماءهم ، لا تفرق بين طفل وامرأة ، مريض أو عجوز ، بريء أو مذنب ، شريف أم ذليل ، فباللحم والدم تحيا الوحوش وتتكاثر .
أربعة عشر سنة في سجن الطامورة التي لا ترى الشمس ، ضيق المكان ، قلة أو إنعدام الماء والغذاء ، صراخ وضجيج النزلاء الأخرين ، سطوة الجلادين ، الظلام ، بالإضافة الى ثقل الحديد ، مكبلاً الأيدي والأرجل ، لا يمكن تخيل ذلك إلا لمن عايش تلك السنين الطويلة ، غير إن المكوث في ظروف كهذه مضافاً إليها الرطوبة وأمراضها تقصر عمر الإنسان ، حتى وإن تمتع هذا الإنسان بصحة عالية فلا مجال له الصمود تحت هذه الظروف لمدة طويلة .
كان يتوقع موت الامام الكاظم "ع" في أي لحظة ، لكن المدة طالت ولم يمت ، فما كان امام الحاكم المتجبر هارون اللارشيد الا ان يستعجل بموته ويلجأ الى وسيلة خفية ، كالسم ، الذي تم تمريره بواسطة السجان ، وهكذا تم الأمر .
غادر الدنيا بكل بساطة ، لكن بشجاعة فائقة وعزيمة لم تلن ، لم يجامل ، ولم يحابي ، ولم يقلق حتى ، وما كان خائفاً يوماً من الموت الذي كان يتوقعه في كل لحظة ، بالسجن أو خارجه ، فهذا هو المصير المحتوم الذي سيلقاه كل من عارض السلطة ووقف بوجه الحاكم ، لم يفكر في نفسه ولم يحمل همها ، بل كان يفكر بالأمة حاملاً همومها ، يحارب سياسة تجهيل السلطة للشعوب ، ويواجه أقلامها المأجورة ، ويكم أفواه المزورين بأمرها ، ويخرص ألسنتها ، يدافع عن الاسلام ضد كل بدعة يبتدعها وعاظ السلاطين ، كان عليه السلام مقاوماً في عدة جبهات في وقت واحد ، صامداً صموداً اسطورياً حتى فاضت روحه الطاهرة.