أُبارِكُ لكم مولدَ أَمير المؤمنينَ (ع) ، الذي وُلِدَ في جَوْفِ الكَعْبَةِ ، وهذه خُُصوصِيَّةٌ لعَلِيٍّ عليه السلام ، لم تحدُث لأَحَدٍ قبلَهُ ولابعدَهُ . انَّها حادِثَةٌ فريدَةٌ تَفَرَّدَ بها عليٌّ (ع) .وقد وضع الزبيريون روايةَ آحادٍ رواها عبدالله بن مصعب الزُّبَيْري ، أن وليد الكعبة هو حكيم بن حزام، ولكنَّها تَظَلُّ روايَةَ آحادٍ في حين أَنَّ روايةَ ولادةِ عليٍّ بالكعبة تَواتَر نقلُها ، كما يقول الحاكمُ النَيْسابُوري في أَلْمُسْتَدْرَكِ على الصَّحِيحَيْنِ .
والموضوعُ الذي سأَتَحَدَثُ فيهِ هو : ( الامام علي(ع) في مواجهةِ الناكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقينَ) ، ولكن لابُدَّ من التمهيد لَهُ بمقدِّمَةٍ ، وهي أَنَّ علِيَّاً عليه السلام هو شخصيَّةٌ مِعْيارِيَّةٌ أَي: نُمَيِّزُ بها الحق من الباطل ، والصَّوابَ من الخَطَأ ، والهُدى منَ الضَّلالِ . والمعيارُ لابُدَّ أَنْ يكونَ معصوماً ، واذا لم يَكُنْ المعيارُ معصُوماً فَقَدَ مِعياريتَهُ .
فنحنُ في واقعنا لدينا معايير لقياسِ درجةِ الحرارة ، ومعيار لقياس الضغطِ ، ومعيار لقياس مستوى السُّكَّر في الدم ، ويجب ان تكونَ هذهِ المعاييرُ دقيقةً ومضبوطةً ومعصومة عن الخَطَأ ، واذا لم تكنْ كذلك نتركها ونستبدلها بمعايير معصومة ؛ لانها اذا لم تكنْ معصومةً تفقدُ مِعياريَّتَها ، وكذلك الحالُ في الشَّخصِيّات ، هناك شخصياتٌ معياريَّةٌ كشخصيّةِ رسول الله صلى الله عليه وآلِهِ وسلم وشخصيَّةِ عليٍّ (ع) وشخصيات ائمة اهل البيت عليهم السلام ، وهذه الشخصيات المعيارية نأخذ منها دينَنا وايمانَنا وصلاتَنا وفقَهنا، وماعداها شخصيات تأريخيّة لاتصلُحُ للمعياريَّةِ.
ومِعيارِيَّةُ عليٍّ عليه السلام حَدَّدَها رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم بكلماتِهِ النُّورِيَّةِ ، كقوله (ص) : ( علي مع الحق والحقُّ معَ عليٍّ يدورُ معهُ حيثُ دار ) ، الذي يدورُ مع عليٍّ عليه السلام هو الحق لماذا؟ لانَّ الحَقَّ معيارٌ مُجَرَّدٌ ، وعليٌّ (ع) معيارٌ مُجَسَّدٌ . وقولهُ (ص) : عليٌّ مع القُرآنِ والقُرآنُ معَ عليٍّ (ع) ، وقولُهُ (ص) لعمّار : ( ياعَمّار لو سلكَ الناسُ وادِيّاً وسلك عليٌّ وادِيّاً آخَر فاسلك الواديَ الذي سلَكَهُ عليٌّ ) ، وكذلك قولُ النبيِّ (ص) لعلي (ع) ? ياعَلِيُّ حربُكَ حربي وسلمُكَ سلمي ) ، وكَأَنَّ هناكَ تَعادُلِيَّةً بينَ حَربِ النَّبِيِّ وَحربِ عليٍّ (ع) ، والربط بين هذا الحديث والحديث الذي رواهُ الحاكم النيسابوري في مستدركهِ : ( أُمِرتُ بقتالِ الناكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقينَ ) . أُمِرَ عليٌّ بقتالِ الناكثين والقاسطينَ والمارقينَ ؛ لانَّهُ شخصِيَّةٌ معياريّةٌ ، وهناك تعادلية في قتال النبي على التنزيل وقتال علي التأويل ، يقول رسولُ الله (ص) :
"ألا وانَّ عليَّ بن ابي طالب أخي وَوَصيِّ يقاتِلُ بعدي على تَاويلِ القرآنِ كما قاتلتُ على تنزيلِهِ".
وقتالُ الناكثينَ والقاسِطينَ والمارقين ، لايمكن أن يقاتلهم احد ٌ الا عليٌّ ؛ لانهُ الشخصية المعيارية التي تجمعها التعادليَّةُ مع رسول الله ، حربك حربي وسلمك سلمي ، تقاتل على التأويل كما قاتلتَ على التنزيل . الشخصيَّةُ التأريخيَّةُ لايمكن ان تقوم بهذه المهمة . لاول مرة يواجه المسلمون حرباً اسلاميّة اسلاميّة ، اي: انّها بين مسلمين ، وهذه مشكلة لايواجهها الا علي نفس رسول الله (ص) ، وعليٌّ ولأَولِ مرّةً يؤسِسُ فقهاً جديداً للتعاملِ مع حربٍ ضروسٍ تحدثُ بينَ مسلمين ومسلمين .
الناكثون نكثوا بيعتهم وتخلوا عن عهدِهم وميثاقِهم الاخلاقي مع علي (ع) خليفة المسلمينَ.
حرب اشترك فيها صحابة من كلا الجانبين ، الصحبة وحدها لاتكفي للمعياريّة ، كما عند اخواننا الذين جعلوا الصحبة معياراً وهي ليست معياراً ؛ لان الصحابةَ تسابوا وتقاتلوا فيما بينهم ، والمعيار كما قلنا لايخطئ . كانت الجمل اولى الحروب التي شنَّها الناكثون الذي نكثوا بيعتهم ونقضوا عهدهم والتزامهم الاخلاقي ، والله تعالى يقول:( إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). الفتح: الاية:10 . وأَما القاسطون البغاة معاوية وعمرو بن العاص ، والله تعالى يقول في القاسطين : ( وَأَمَّا ٱلْقَٰاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). الجن : الاية : 15. وقول النبي (ص)
بحق عمار : يدعوهم الى الجَنَّةِ ويدعونَهُ الى النار ) . وأمّا الخوارج المارقون فقد وصفهم النبيُّ (ص) بأَنَّهم يخرُجُونَ من الدين كما يخرُجُ السَّهْمُ من الرميّة . اهل الجمل واهل صفين رفعوا قميصَ عثمانَ وطالبوا بدمه وكانوا من قبل يُحَرِّضُونَ عليه . وهم ليسوا اولياءَ دمٍ لعثمانَ حتى يطالبوا بدمه ، وليس هم الذين يقتصونَ لدم عثمان وانما وليُّ الدم يقدم شكوى للسلطات الموجودة وعلى رأسها امير المؤمنين (ع) ، وليس عبر الافساد وقتل الناس . الامام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة على يزيد قال : لم اخرج اشراً ولابطراً ( اشارة الى اهل الجمل) ، ولاظالماً ( اشارة الى معاوية وابن العاص واهل صفين ) ، ولامفسداً ( اشارة الى الخوارج ) . كل هذه الحروب التي حصدت آلافاً من النفوس البريئة ، وعطَّلَتْ مشروعَ عليًّ عليه السلام الاصلاحيِّ والتي انتهت باستشهاده على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم .
واليوم يواجه الاسلاميون حروبَ الناكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ الجُدُد ، هناك خطوط نكثت التزاماتها الاخلاقيّة مع الاسلاميين ومشروعهم ، وهناك قاسطون وظالمون وباغون ومعتدون وناقمون على المشروع الاسلامي الاصلاحي ، وهناك مارقون تكفيريون حملوا الفهم الحرفي للاسلام وافسدوا وتجاوزوا كل حد . هناكَ شعاراتٌ ويافطاتٌ تدعو الى الاصلاح وهم ابعد مايكونون عن الاصلاج ، هناك شعاراتُ اصلاحٍ زائفة ، وعلينا ان نميِّزَ بين الشعارات الزائفة والشعارات الصادقة . في ذكرى ولادة امير المؤمنين عليه السلام ، علينا ان نواجهَ هذهِ المشاريعَ الجديدةَ انطلاقاً من هدي امير المؤمنين عليه السلام في هذه المواجهة .