يخطئ من يعتقد بوجود أزمة بمدينة الناصرية ، بل واقع حال يؤشر تراكمات سلبية في جميع مناحي الحياة السياسية والإجتماعية والاقتصادية _ المعيشية ، ميادين تتداخل مع بعضها لتكون مماثلة لأزمة العراق بنحو عام وليس مدينة دون غيرها، ربما تنخفض نسب الأزمات اعلاه في بعض مدن العراق مثل مدن اقليم كردستان أو في الانبار وبغداد ، لكنها تكشف عن نفسها بأشكال وظواهر أخرى .
تشتعل الناصرية بالاحتجاج والرفض لأن السلطات المحلية المتعاقبة غاطسة بالفساد والفشل والأمية وضعف فاضح بشؤون الإدارة والروح الإنسانية ببعدها الاخلاقي، مايجعل الضحايا يتساقطون بأرقام أوفر من بقية المدن (عدا بغداد) لتكون وقودا إضافيا لإستمرار التظاهر وترفع درجة التحدي لدى الاهالي، فمنذ التغيير ٢٠٠٣ لم تشهد الناصرية أي تغييرات نوعية في بنيتها التحتية والفوقية، بل على العكس تماما، تراجعت كثيرا ، ولم تعود منشآتها الصناعية للعمل والانتاج كما كانت سابقا ، ولم تستحدث مشاريع انتاجية جديدة تفتح آفاقا للعمل وامتصاص البطالة المتزايدة في مدينة يربو عدد سكانها على مليوني إنسان .
هكذا حال الناصرية وأبنائها قبل البدء بانتاج النفط من حقولها أو مابعد انتاج النفط ( تنتج أكثر من 150 الف برميل يوميا عدا أنتاج الغاز .
تقاسمت الاحزاب المتحاصصة سلطويا تلك المليارات التي تخصصها الحكومة المركزية لمدينة الناصرية، نهب مبرمج وثراء فاحش منذ أول محافظ حتى يحيى الناصري الذي تركها خرابا وافلاسا وهكذا مع بقية المحافظين ومجالس المحافظة المتلاحقة، وتستمر المدينة في توليد معاناتها والفقر لدرجة تبلغ نحو ٤٠٪ من نفوسها، بينما هي مدينة زراعية وسياحية ونفطية ولها موقع جغرافي مميز بين بغداد والبصرة، لكن لم تفكر السلطات المحلية بأي استثمار لهذه الموارد الطبيعية أو البشرية التي تزخر بها محافظة ذي قار .
الاحزاب والتيارات الاسلامية تسيطر على الناصرية منذ 18 سنة ومجمل القيادات السياسية والادارية للمدينة لايملكون التأهيل العلمي والعملي والوظيفة المتدرجة مهنيا، مثل بقية مدن العراق،
هم يملكون الإنتساب الحزبي أو المليشياوي الذي يمنحهم القوة والنفوذ والهيمنة أزاء إنحسار وتخاذل سلطة القانون، وبروز سلطة العشيرة والكاتيوشا، واستطاعت أن تخدع الجماهير العريضة بوعود وشعارات طائفية، ونهبت كل شيءمن المال العام وحتى الأصول التابعة للدولة، وليس أمام ابن الناصرية سوى أن يتطوع بالشرطة أو بالجيش أو وظائف إدارية أو خدمية غير انتاجية بل تكدس اداري فضائي كما يطلق عليه، لقاء رشاوى يضطر لدفعها أحيانا للحصول على وظيفة، وفي عمومها تمنح للاحزاب ومنتسبيها .
المشكلة غير مرئية من قبل السلطة المركزية في بغداد في ظل غياب المراجعة والمحاسبة وشلل ديوان الرقابة المالية، وتخلف مجلس النواب بلجانه المتعددة عن الإهتمام بالمدن العراقية ومطالعة أوضاعها بأسلوب دوري ، ولأن الحكومة المركزية في بغداد تعيش ذات الأنماط السائدة بالمحافظات من هيمنة الاحزاب والمحاصصة وفساد وأمية وفشل إداري ومهني، لكن بأضعاف مضاعفة، وهي دورات تنتهي بأربع سنوات في صراعات وتنافس وصفقات على السلطة والنفوذ والمال، دون برامج ومشاريع لإدارة الدولة وبنائها ومعرفة تفاصيل العيش للعراقيين سواء في جنوب البلاد أو حتى في شمالها .
تلجأ سلطة بغداد المركزية الى اسلوب تهدئة وتخدير مرحلي مع كل اشتعال للأزمة في الناصرية أو البصرة أو الكوت وغيرها بمعنى عملية إطفاء الحرائق، ولعل الإجراء الأول المتخذ هو استبدال المحافظ ودفع قوات إضافية لقمع المتظاهرين، والوعود بدرجات تعيين أو مشاريع أو تخصيصات مالية إضافية وسرعان ماتتبخر ويبتلعها كذب الحكومة أو جيوب المسؤولين بالمحافظة !؟
استبدال المحافظ ليس حلا ياحكومة ويارئاسات !
المدن فقيرة وتشارف على الموت وهي تحتاج الى حلول عملية حقيقية تمتص منها الجوع والبطالة واليأس الذي أطبق على أفق حياتهم ماجعل الشباب يواجهون الرصاص بصدور عارية ، ويواجهون زيف السلطات السياسية والحكومية بهتافات انتقامية تسقيطية ويعمدون الى حرق مقرات الاحزاب والدوائر الحكومية ، الأزمة السياسية تشكل الجذر الأعمق في هذا الواقع المتخلف والأزمة المستدامة ،وهذا ماسنأتي على ذكره بمقالنا المقبل .