عندما أدركت الحياة وبدأت تلتصق صور من حولي بذاكرتي، رأيت صديق والدي الحاج فتحي محمد علي الأسدي مطلع الثمانينيات ببغداد مدينة البلديات , دعا أبي وبعض أصدقائه لوليمة أفطار أقامها في شهر رمضان أعلى سطح المنزل وأعد لنا خروفا صغيرا مشويا وضع في فمه خضار وبباطنه حشوة وأرز , أخذت أحدق بوجهه الذي يشبه قرص الشمس وقت الغروب , تأملت في رأسه الأصلع وكثافة شعره الأبيض المنسدل وكأنه فنان .
وما شدني للإعجاب به على مدار السنوات وفاؤه وتواصله؛ فلا يمر شهر إلا وزارنا أو زرناه , فدفعني الفضول لسؤال والدي : كيف تعرفت على الحاج أبو محمد ؟
ـ أجابني بابتسامته ساحرة , في الستينيات جمعنا حب الله والتقينا في محل عوينات أخيه الشهيد على بالبصرة .
أردفت بسؤال أخر : ما هو عمله ؟
ـ كان محللا ومذيعا في وكالة الأنباء العراقية ومديرا لها في اليمن لمدة سنتين و تنبّأ بظهور سيطرة وهيمنة دولة خليجية على الدول العربية بمساعدة دول أوروبية عظمى .
وحاولت استفزاز أبي ليواصل حديثه عن هذا الإنسان الفريد من نوعه , فنقلته لذكرى الوليمة وإغداقه بالكرم والوفاء علينا , فاسترسل بكلامه : حميد السجايا أخي حاج فتحي لا غموض يكتنف حياته كان ظاهره عن باطنه قيد أنملة , هو نفحة أيمان تعبق برائحتها كل من عرفه , فهو قبس يختلف بتوهجه عن كل قبس أخر , إذ كان يأبى الانصياع لمظاهر النفاق والرياء متمسكا بالمبادئ قولاً وفعلاً, معتزا بكرامته وغنيا بمواهب نفسه , مغامرا بمكافحة الدكتاتورية , وثائرا على الظلم والاستبداد , مضحيا بنفسه لإقامة العدل والحق. وكان في الجو الذي يمور بالأحداث المظلمة التي يسودها شبح أحكام الاعدامات والاعتقالات ويجثم على قلوب الناس كابوس النظام المبيد , إذ نصبوا أعواد المشانق في ظلم المطامير وبعضها ناطح الافق , فأرهبت الطير في أجوار السماء تمهيدا للقتل وتصفية كل شريف , ففي ذاك الوقت جاءت تضحياته بلا حساب فاعتقل سبع سنوات وأعدم أشقاؤه الثلاثة علي وكريم وناجي وأولاد عمه , وطرد من وظيفته , وأبعد عن مسقط رأسه البصرة الفيحاء , إلا أنه واجه تلك الحوادث بصلابة مستعصية .
ومضت السنون وكلما رأيته تذكرت كلام والدي عنه , وتيقنت في تعاملي معه بأنه عفيف الجيب كريم الشمائل . سما به ضميره مقامه , وما يدهش كل من رأى هذا الحاج وقاره وخفة روحه التي تطير بك إلى سماء الخيال الجميل من اللذة ونسيان مصائب الحياة ومتاعبها .
بعد عام 2005 وكما هاجرنا لموطن إبراهيم الخليل في جنوب العراق , هاجر أبو محمد بالوقت ذاته لمسقط رأسه بسبب الإرهاب في بغداد . وفي سنة 2008 اتصل بي والدي وأخبرني بزيارة ضيف عزيز علينا , خرجت من منزلي بمدينة الناصرية أقود سيارتي وأنظر لقرص الشمس وقت الغروب وأفكر من هو الضيف ؟
وصلت للقرية بعد ساعة إلا ثلت مسافة الطريق ,فوجئت بالوجه الكريم أسرعت إليه أستقبله بالأحضان وقضيت أجمل ليلة وسط شيبتين كريمتين تخرج من أفواههم درر وتضرب بوفائهم أروع الامثال .
وفي يوم السبت 10/ 3/ 2019 ذهبت عصرا لديوان والدي كعادتي كسائر الأيام ,إلا أنني أرى سحابة الحزن تخيم على وجه أبي وعيناه غارقتان بالدموع , قطع نياط قلبي فسألته ما الخبر ؟
ـ رد بصوت يقشعر له البدن , اتصلت بالحاج فتحي وكلمني ابنه نبيل , فقال: عمي الوالد تعيش أنت , ثم بكى .
تلعثمت ومضى بي الخيال لمسودة الذاكرة أتذكر لقاءاتي به وكلامه وابتسامته فذرفت عيني زخات دمع كالمطر , ولساني يلهج متى ؟
ـ زاد الأنين وارتفع البكاء فخاطبني : قبل أسبوع يوم الثلاثاء استأثرت به يد العناية فوفد على ربه بهي النفس وبين يديه كتاب حسناته وسجل تاريخه يزهو في جنات الخلد بين روح وريحان وتلك عقبى المتقين وجزاء المجاهدين الراغبين في مرضاته المشتاقين إلى برد المقيل عند ظله المقيم .
وختمت قولي: إنا لله و إنا إليه راجعون , غمره الله برضوانه وبرأه المثوى الكريم بين المجاهدين الصادقين والشهداء والصالحين الذين ترسم من خطاهم ونهج سبيلهم ونسج على منوالهم ,فعاش حميدا ومات سعيدا.
أهدي هذه الأبيات لروحه الطاهرة :
الحاجُ فتحي خيرُ من عَرف الوفا
أأقولُ ما حدثَ له وما جرى؟
عهدتُه مؤمنًا أرضَى ربَّه والورَى
لا يخشَى قولَ الحقِّ ورب المصطفى
لا تأخذُه في اللهِ لومة لائم
يسمو فوقُ من تدنى أو هَوى
روحُه تفتدي الإسلامَ وآلَ المرتضى
للأصدقاءِ يُهدي مودةً وسلامةً يتمنَّى
فريدٌ نوعُه للصدقِ والوفَا يَتغَنَّى
برحيلِه نزفَ القلبُ دموعًا ودما