أصبح طفلنا في الثانية عشرة من عمره، جاء وقت دراسته للديانات، ليختار ديانته بنفسه بعد أربعة أعوام تقريبا!
ربما لن يصدق القاريء هذه العبارة، لكنها تحدث في مكان ما على أرض الواقع، وهو أحد طقوس الديانة الزرادشتية، ديانة غير تبشيرية يسكن أغلب معتنقيها في أيران وبومباي وهم أكثر الفئات التي تتميز بالثراء المادي في المجتمع كما يتكاثر الزرادشتيون كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والقارة الأوربية، أما في العراق فهم يتمركزون في إقليم كردستان، كانت ممارسة طقوسهم إبان نظام صدام حسين السابق بسرية تامة وبحذر شديد، لأن العديد منهم تم إعدامه، في عام 2015 وحسب قانون 5 في إقليم كردستان العراق الذي ينص على حرية الأديان وممارسة الطقوس والمعتقدات بحرية ظهر الزرادشتيون مرة أخرى في مناطق أربيل والسليمانية ودهوك وبعض منهم في بغداد، يقول المهندس الخبير ابراهيم زراري أحد أعضاء المعنيين لشؤون هذه الديانة: (أنه لا توجد احصائية محددة سواء في العراق أو خارجه للعدد الفعلي والحقيقي للزرادشتيين لأن العديد منهم يرفض الإعلان عن اعتناق الديانة ربما لأسباب أمنية أو اجتماعية)
في رحلة خاصة لأربيل شاء القدر أن ألتقي بعدد من ممثلي ديانات وقوميات مختلفة منهم زرادشتيون، وهم شعب مسالم جدا يتعايش مع الجميع بهدوء ويحترم حقوق الآخرين ومبدؤهم هو المحبة بين الجميع لا فرق بين أبيض وأسود ولا بين ذكر وأنثى ، وجاءت تسمية ديانتهم نسبة إلى مؤسسها (زرادشت).
يولد الطفل لديهم لا ديني وفي عمر الثانية عشر عاما يتم تعليمه أصول الديانات الأخرى وبعد الدراسة الشاملة يختار ديانته بنفسه تحديدا في السادسة عشرة من عمره, لا يهم أي ديانة سيختار, المهم أن يعيش بينهم بسلام ويحترم طقوسهم ويحترموا طقوسه حتى لو عاش منفردا بديانة مختلفة عن عائلته, أما الطفل الذي يعتنق الزرادشتية سواء كان ذكرا أم أنثى تأخذه أسرته لمكان يسمى Ateshgah أتاشكا والترجمة الحرفية للكلمة هي (مكان النار) Atesh تعني النار و Gah مكان, وهو ليس معبد لأن لا عبادة لديهم لكنه يعتبر بالنسبة إليهم مكانا طاهرا للتبجيل يتم تطهير المعتنق به وتلقينه لإعلانه رسميا باعتناق الزرادشتية, يقول السيد زراري: (كل الديانات مسلمة منها الزرادشتية فهم أناس يوحدون الله ويؤمنون بوجوده وحده لا شريك له, لكن كل ما في الأمر تختلف طرق التقرب إلى الله فهم يمجدونه بالقرب من النار بعد إشعالها كونها عنصر مقدس بالنسبة لهم لأنها تعتبر مصدر طاقة مهم وهذا ما أدى إلى إشاعة غير حقيقية عنهم بأنهم يعبدون النار وهو أمر عار عن الصحة, ويضيف زراري قائلا: ( أن الزرادشتية تقوم على ثلاثة أسس هي الفكر الصالح والكلام الصالح والعمل الصالح) .
الصلاة لديهم وقوفا لا ركوع ولا سجود, ويكتفي المصلي أن يضع شمعة أمامه ليؤدي طقس الصلاة لكن يشترط في الصلاة ألا تكون الأرض المؤدى عليها محتلة أو مغتصبة وإلا كانت الصلاة محرمة ومن المحرمات الأخرى لديهم (الزنا) وزواج الدرجة الخامسة من الأقرباء أي لا يصح الزواج بأبن الخال أو ابن الخالة أو ابن العم أو العمة أو ابن الحمى أو ابن الحماة لتلافي أمراض الجينات, وكذلك يحرم تلوث عناصر البيئة الأربعة الماء والهواء والنار والتراب ويعملون على بقائها طاهرة نقية لأنهم يقدسون عناصر الطبيعة والتي هي أساس الحياة مع هذا فلا دستور للمحرمات ثابت لديهم فقط أن كل مؤذي حرام مثلا شرب الماء حلال لكن لو أعطي لشخص في العناية المركزة تحت تأثير التخدير بعد إجراء عملية جراحية سيتحول الماء إلى شراب محرم وهكذا.
الزواج لديهم حتمي فعلى جميع البالغين أن يتزوجوا مع شرط الألفة والمحبة بين الشريكين أما الطلاق فهو محرم إلا بثبوت بعض الحالات منها زنا أحد الشريكين أو الجنون أو عدم القدرة على الانجاب ففي هذه الحالة لا يسمى طلاق بل انفكاك بعدها يستطيع الشريك الآخر الارتباط مرة أخرى, ويسمح لمن توفى شريكه أن يرتبط أيضا ويحرم التعددية في الزواج.
في حالة الوفاة يتم غسل وتكفين المتوفى ووضعه باتجاه الشمس في صندوق حديدي حتى لا تؤثر جثته في التربة عند التحلل وتوجد بعض الترانيم لديهم تقرأ على الميت من قبل رجل دين, أما إيمانهم في الآخرة فهم لا يعترفون بوجود جنة أو نار والحساب لديهم حساب معنوي يعتمد على طريقة تفكير الأنسان فهناك بيت للمنافقين معنويا وهناك جسر للخير وجينات الخير أو جينات الشر تعتمد على ما يقدمه المرء من خير أو شر أو من اسعاد الناس من عدمه فلا خلود بدني أو فيزيائي.
جملة من المطالبات للزرادشتيين العراقيين يضعها ممثل عنهم في بغداد على طاولة البرلمان أهمها الإعتراف بهم كديانة رسمية حالهم حال أي مكون آخر في البلاد وهم يسعون للمطالبة برفع تسمية الديانة من البطاقة الشخصية للمواطن إيمانا منهم بأن العقيدة الدينية بين العبد وربه ولا داع لذكرها كما يجب أن يتم فصل الدين عن السياسة, مع استيائهم من عدم ذكر معلومات وافية وحقيقية عن معتقدهم في المناهج الدراسية وحتى المعلومات الموجودة مغلوطة لم يضعها زرادشتيون بل وضعها مؤلفون لا خبرة لهم بديانة الزرادشتية وبالتالي فإن مصادرهم غير صحيحة, كما يتمنى معتنقو هذه الديانة أن توفر لهم الحكومتين في بغداد والإقليم قطع أراض لبناء معابد لهم مثل المساجد والكنائس لتكون على أقل تقدير تأريخ ومعلم حضاري للبلد ومع أنهم طالبوا كثيرا في هذا لكن دون إسجابة تذكر.
)يلدا) هو العيد الأهم لدى الزرادشت تتزامن مع أعياد رأس السنة الميلادية يسميها الكرد (جلده) تنطق الجيم كحرف (Ch) في اللغة الانكليزية لكن الزرادشتيين يحتفلون بها كونها أطول ليلة في فصل الشتاء وفي معتقدهم القديم الميثرا هو الاحتفال بولادة الشمس وتكون مظاهر الاحتفال بها ليلتي ال21 و22 ديسمبر من كل سنة بالسهر حتى الصباح والرقص والغناء وتناول الفاكهة والحلويات ومختلف الأطعمة والعيد الآخر لديهم هو عيد (نوروز) ويعتبر يوم تقويمي للزرادشت ويعبر التقويم الميلادي ب700 عام وعيد المائة أو مايسمى عيد القرن وهناك مناسبات الأخرى تتعلق بالطبيعة والطقس مثل بداية الربيع أو انتهاء الخريف وحلول الشتاء وموسم الحصاد فضلا عن الاحتفال بالأطفال الذين دخلوا الديانة لأول مرة.
بكل الأحوال يبقى الزرادشت مكون حقيقي وواقعي له دور في حياتنا, وكأي مكون آخر لابد أن تكون له حقوق, للفرد خاصة وللمجتمع عامة, أهمها احترام وجودهم والاعتراف بذاتهم وإذابتهم بين مكونات المجتمع الأخرى, والعمل على إشاعة لغة السلام بين أبناء البلد الواحد, فلا تطور ولا ازدهار دون لغة الاحترام ولغة السلام.