كانت سنة صعبة، لفّها الرعب وسار القمع الصدامي في أيامها وأشهرها. كانت سنة ١٩٨٠ حزينة، فيها استشهد السيد محمد باقر الصدر، وفيها استشهد شبان ورجال أبرار لا يتكرر مثلهم. وفيها صار خيار أبناء الحركة الإسلامية إما السجن أو الهجرة.
في تلك السنة صارت دمشق أرض الهجرة. وكان ضريح السيدة زينب عليها السلام ملتقى المهاجرين، يطوفون بضريحها، ويصلون في حضرتها ويتحدثون في صحنها.
تغيب الشمس عن أفق دمشق، يأتي رجل وقور منتصب القامة رشيق القوام، شيخ هادئ الملامح، يفوح منه عطر الحنان والأبوه. يؤدي صلاته بين بقية المصلين خاشعاً لله متواضعاً للناس.
ذات ليلة من أيلول ١٩٨٠، التقيت الصديق العزيز مصطفى الركابي (أبو سحر) وكنتُ أظنه قد أُعتقل ضمن الذين اعتقلوا في مكان اختفائهم في منطقة الحيدرخانة ببغداد. كان كلام (أبو سحر) عن الشيخ محمد باقر الناصري، يحدّني عن دوره ومواقفه وشجاعته ورساليته. ثم كان لي شرف التعرف عليه في شقته بحي الأمين بدمشق.
كان الشيخ رحمه الله يعتمد كثيراً على الدكتور (أبو سحر)، يصطحبه في زياراته للعوائل السورية، ولمساجد دمشق ومراكزها وعلمائها. وفي يوم بارد من كانون الأول ١٩٨٠، رافقتُهما ظهراً للصلاة في المسجد الأموي، وفي أحد الأزقة القريبة من المسجد، رأى الشيخ الناصري مجموعة من الشباب الأفارقة، كانت الحيرة تلفّهم بلون صارخ، فطلب الشيخ من مصطفى الركابي أن يسألهم عن حالهم ويستجلي أمرهم وهل يتكلمون العربية أم لا؟
كانوا يتكلمون العربية، وقد جاءوا الى دمشق للدراسة لكنهم لا يعرفون البداية، ولا يعرفون البلد، كانوا تائهين في دمشق بفقرهم وغربتهم.
استضافهم الشيخ. استأجر لهم شقة للسكن. تكفل بكل شؤونهم المعاشية من ماله الخاص، وطلب من صديقي الركابي ان يتولى رعايتهم وتعليمهم وتوجيههم. فتح لهم الشيخ الناصري مجال التعلم والدراسة وأشرف بنفسه على ذلك، حتى تحوّلوا الى التشيع، وبلغوا مستوى علمياً ناضجاً في معرفة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فعادوا الى بلادهم ينشرون التشيع هناك، وأتبعهم على ذلك خلق كثير.
بقي الشيخ رحمه الله يتابعهم، يستفسر عنهم، يسأل أحوالهم، يعزز نشاطهم. كان رحمه الله يعيش الإسلام بروحه، ويعيش العمل الإسلامي بقلبه.
فترة من حياتي في الهجرة، كانت مرتبطة بالشيخ الناصري، وكان صاحب فضل ورعاية وتشجيع. تكفّل رحمه الله بطباعة ثاني كتبي (الحرب العراقية الإيرانية) وقد تولى بنفسه متابعة الطباعة بشكل يومي مع دار النشر.
مع الشيخ الناصري يطول الحديث عنه. ربما أعود ثانية لأكتب.
٢٩ تموز ٢٠٢٠