‎الامام الرضا وسياسة إفشال مكائد الطغمة الحاكمة ‎/جميل ظاهري

السبت - 04/07/2020 - 19:30

‎السياسة هي محور الحكم والسلطة التي لها دورٌ مهم في حياة الانسان الفكرية والاجتماعية والعقائدية، فكلما كانت السلطة صالحةً وسياستها رشيدة كانت حياة الناس أسعد وأسلم في شتى الجوانب، أما إذا كان هناك إنحراف في مجال السلطة والحكم وهو ما تعانيه الأمة منذ يوم "سقيفة بني ساعدة" حتى يومنا هذا حيث إبتعاد الحكام عما أمر به الله سبحانه وتعالى وجاء به رسول المودة والمحبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكان أئمة أهل بيت الرسالة والنبوة عليهم السلام يولون الأمر أهمية بالغة وفائقة حفاظاً على الرسالة المحمدية الأصيلة الهادفة لهداية البشرية وإخراجهم من الظلمات الى النور ومن الجاهلية للعلم والتقدم والتطور ومن القبلية نحو الاستقلال وحرية الرأي والموقف، وردعاً للطغمة الحاكمة ومساعيها في تزييف الرسالة الخاتمة رسالة المودة والمحبة والتساوي والتآخي والعيش الآمن والسليم.
‎توارث أئمة الهدى والرسالة السماوية عليهم السلام مهمة التصدي للإنحراف والتزييف وتزوير السلاطين ووعاظهم حقيقة الدين وأسس الإتيان به، واحداً بعد آخر وقدموا أرواحهم وفلذات أكبادهم وأخوانهم وأهل بيتهم قرابين لتكريس ما أمر به الله سبحانه وتعالى " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ.." - آل عمران:19، واقفين كل الوقوف على تأثيره الكبير على مختلف جوانب حياة العباد والبلاد نحو الكرامة والعيش الرغيد والتعاون الاجتماعي، متمسكين عاملين بما قاله أمير المؤمنين علي (ع): "يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل. ولا يظرّف فيه إلاّ الفاجر.. فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء وإمارة الصبيان.. وإذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان.. ولا خير في الصمت عن الحكم" .
‎أبناء وأحفاد كبير الطلقاء أبو سفيان والسائرين على نهجه لا زالوا متمسكين بوصيته لهم وهو يصرخ بهم ويقول: "يا بني أمية تلاقفوها تلاقف الكرة, فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار" - الجوهري: السقيفة 39 ـ 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44، المقريزي: النزاع والتخاصم 31؛ فلعبوا ويلعبون دوراً خطيراً للقضاء على الاسلام المحمدي من الداخل وتفتيته، بإشعال لهيب فتنة لا تنطفىء على عهد الخليفة الثالث حين ذهب لقبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب فركله برجله قائلاً: "يا حمزة إن الأمر الّذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم".. لكن أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أدرك نواياه الشريرة وأبان عنها- رواه الجوهري: السقيفة 40، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 44، المقريزي: النزاع والتخاصم 30و75، النصرالله: مرويات الجوهري عن يوم السقيفة 10، 22 ـ 23.
‎حياتهم أئمة الهداية الربانية (ع) من أبناء رسول المودة والمحبة الصادق الأمين (ص)، لم تُعرف على حقيقتها حتى يومنا هذا رغم آلاف الكتب والروايات والأحاديث وقد ظلمهم البعض من شيعتهم قبل أعدائهم وشككوا في نزاهة توصياتهم وما قاموا به أو أساؤوا تفسيره، متجاهلين تضحياتهم الجسام وتأكيداتهم في التصدي لإنحراف وتزوير الدين القيم على مدى 250 عاماً من حياتهم الشريفة، تلك الحقبة التي تسلط عليها بنو أمية وبنو العباس، فقطعوا رؤوس المحدثين وأحرقوا ماكتبوه ونقلوه عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى الأمة في ضلال الجهل والعصبية القبلية التي يبغونها؛ كميثاق صلح الامام الحسن عليه السلام وأبن هند آكلة الأكباد صاحبة الراية الحمراء معاوية بن أبي سفيان، وكذا قضية قبول الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد في زمن الطاغية العباسي المأمون .
‎الحياة السياسية للنور الثامن من أنوار الهداية السماوية للبشرية الامام علي الرضا (ع) ونحن نعيش ذكرى مولده المبارك والميمون (الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148 للهجرة في المدينة المنورة. وقيل في الحادي عشر من شهر ذي الحجة سنة 153 للهجرة)؛ وأسباب قبوله (ع) منصب ولاية العهد، جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة باعتبارها من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة (250 عاماً) التي لم يسمح السلاطين للأمة من دراستها وتدقيق النظر والتمعن فيها كي يبقوا على غفلتهم وتياههم لسبب عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة.. والتي كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الاسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ تبيين وشرح الدين من منظار أهل بيت الوحي والامامة عليهم السلام، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الاسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت عليهم السلام.
‎منذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح الى سلطنة بكل ما للكلمة من معانٍ في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) الى حكومة ملكية توارثية متجبرة ديكتاتورية متسلطة على رقاب الناس، فكانت المواجهة السياسية لأهل البيت عليهم السلام تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة، بين الصمت والصلح والثورة ودخول السجون والإضطرار للمماشاة والغيبة حفاظاً على الدين والعقيدة وحياة الناس.. فيما سياسة المتسلطين والمتفرعنين هي التمادي في القمع والقتل والتعدي والنهب والتحريف والتزييف، وأنهار الدماء جارية من أقصى بلاد المسلمين الى أقصاها خاصة من بلاد الشام حتى بلاد سبأ ومن أرض الرافدين حتى قرطبة حيث حكم الأراعن والطغاة من أحفاد أبناء الطلقاء وآكلة الأكباد ممتد وداعم للارهاب التكفيري الطائفي المتجذر منذ أكثر من 14 قرناً في صفوف الأمة.
‎رفض الامام الرضا (ع) ولاية عهد المأمون العباسي كثيراً ليقبلها فيما بعد على مضض وجبر الظروف التي عاشها أهل البيت (ع) وشيعتهم وأنصارهم والأمة برمتها هي حقبة سلطنة المهدي والهادي والرشيد، تلك المرحلة القاسية والصعبة جداً في مطاردة العلويين، وهدم دورهم، ومصادرة أموالهم، وإدخالهم السجون وإستباحة دمائهم وشيعتهم دون إستثناء؛ الى جانب تهديد الطاغية المأمون العلني للامام الرضا (ع) حيث خاطبه: "إني رأيت أن أوليك العهد أي الخلافة. فقال (ع) له: أعفني، إنه لا طاقة لي بذلك، ولا قوة لي عليه. فرد المأمون: فإني موليك العهد من بعدي. فقال (ع) له مرة اخرى: أعفني من ذلك. فشتاظ المأمون غضباً وقال مهدداً الامام أبا الحسن (ع): "إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف عنهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أريده منك فإني لا أجد محيصاً عنه" .
‎عرض المأمون بولاية العهد للامام الرضا (ع) لم يكن حباً بالامام وأهل البيت (ع)، بل جاء بهدف جعلها ورقة مساومة بينه وبين العباسيـين في بغداد من جهة، وبينه وبين العلويـين في كل مكان خاصة الشيعة في خراسان من جهة اخرى ضمان لسلطانه؛ خاصة وإن الثورات قد تزايدت عليه من كل صوب وحدب من مصر حتى خراسان مروراً بالكوفة والبصرة والحجاز والشام؛ فقبل الامام الرضا (ع) ولاية العهد ليس خوفاً من قتله، وإنّما سيكون قتله سبباً في خسارة الحركة الرساليّة ولحاجتها الى قيادته في تلك البرهة العصيبة من الزمن على الأمة وفي مقدمتهم أتباع أهل البيت والقرآن الكريم يتحدث عن الإمامة بمنطق الجعل: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" السجدة: 24؛ وسيكون قتله مقدّمة لقتل أهل بيته وأنصاره وأتباعه أجمعين، أو يؤدّي الى ردود أفعال مسلّحة غير مدروسة بدافع الانتقام، وبالتالي تنهار القوّة العسكريّة دون أن تغيّر من الأحداث شيئاً.
‎البعض من ذوي النفوس الضعيفة وأصحاب النوايا الخبيثة (حاجة في نفس يعقوب) يبرر قبول الامام الرضا (ع) لولاية العهد في خوفه على حياته معلنين ذلك تمسك الامام بقوله تعالى "وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" - البقرة:195، وقوله عليه السلام "اللّهمّ إنّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده... اللّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سُنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك أنت المولى وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير"- عيون أخبار الرضا، م. س: ‪1/19‬. 
‎كان للامام علي الرضا (ع) أهداف عديدة اخرى من وراء قبوله منصب ولاية العهد، منها: 1- استثمار الظروف لإقامة الدِّين وإحياء السنّة، 2- تصحيح الأفكار السياسيّة الخاطئة، 3- إفشال مخطّطات المأمون، 4- تعبئة الطاقات لمواصلة مسيرة الاسلام المحمدي الأصيل القائم حتى يومنا هذا وهو ما يخشاه الطغاة والجبابرة والمتفرعنين والمنحرفين عن الخط القويم ويحاربونه بشتى الوسائل ولا يتهاونون من إراقة أنهار الدماء البريئة لذلك وما يجري في العراق وسوريا واليمن والبحرين وغيرها من بلاد المسلمين إلا نموذجاً لهذا الخوف والفزع الأموي وتصديهم لنهج أهل بيت النبوة والرسالة السماوية السمحاء .