تسنم الإمام الصادق (ع) مسؤولية الامامة في حقبة من الزمن بلغت 34 سنة، كان الصراع فيه على أشده بين الحكام الأمويين والعباسيين وفي خضم إنتفاضات العلويين والزيديين والقرامطة والزنج وسواهم من طالبي السلطة.. مما أتاح للامام أبي عبد الله (ع) أن يمارس نشاطه التبليغي التصحيحي في ظروف سياسية ملائمة نوعاً ما كانت بعيدة عن أجواء الضغط والإرهاب والتنكيل الذي لطالما طال أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام وشيعتهم، فأوجد الأمر مناخاً علمياً خصباً بعيداً دواعي الخوف والتقية من الحكام الطغاة الذين لم يرق لهم هذا في نهاية المطاف.
المرحلة آنذاك كانت مرحلة عصيبة من حيث الإنحرافات التي زرعها أبناء الطلقاء أولاد ذوات الرايات الحمر من بني سفيان، تلك التي تمسك بالكثير منها بنو العباس الذين خلفوهم بالسلطة، فكان الوضع محرجاً جداً حيث الإنحراف العقائدي والجهل القبلي ينمو ويتسع بين صفوف الأمة والإنشقاق على أوجه، وهذا تطلب ثورة إصلاحية من نوع آخر لمواجهة المستجدات الإنحرافية التي كادت تطيح بجوهر الإسلام المحمدي الأصيل فيما لو انشغل الامام جعفر الصادق (عليه السلام) عنها بالثورة المسلحة. لكنه (ع) ركز حركته على تمتين وتقوية الأصول والجذور الفكرية والعلمية مع أخذ دوره الرسالي كمعصوم من أهل بيت الرسالة والوحي النبوة والامامة (عليهم السلام).
إستهدف الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) بعمله ونشاطه ومدرسته:
أولاً- حماية العقيدة من التيارات العقائدية والفلسفية الإلحادية والمقولات الضآلة، کالزنادقة والغلو والتأويلات الاعتقادية التي لاتنسجم وعقيدة التوحيد. حيث جاهد (ع) وناضل من أجل الدفاع عن حقيقة التوحيد ضد الملاحدة والزنادقة، وجاهد ضد الغلاة الذين حاولوا ان يتمترسوا تحت يافطة أهل البيت عليه السلام ويتلبسوا بصفات ربوبية والوهية، فتبرأ من كل الخارجين على عقيدة التوحيد کما برا آباؤه عليهم السلام ذلك من قبل.
ثانياً- نشر الاسلام وعلومه الحديثة بمختلف صنوفها تلك التي تطور الغرب من ورائها وبقيّ المسلمون يقاتل بعضهم البعض بجهالة قبلية، فوسع (ع) دائرة الفقه والتشريع وثبيت معالمها وحفظ إصالتها إذ لم يرو عن أحد الحديث ولم يؤخذ عن امام من الفقه والاحکام ما أخد عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام .
عاصر الامام أبا عبد الله (ع) عصرا أقلّ ما فيه أنه عصر الإتجاهات غير المتجانسة فكان (ع) يجمع بين المتفرقات ويفرق بين المجتمعات، مدرسة سيارة لكنها شاملة مستوعبة لكل ما تحتاجه الأمة في حاضرها ومستقبلها معبّراً عن طموحها وتطلعاتها. فلم يرى (ع) منفذاً في ذلك سوى الولوج في نشر علوم أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم ومدرستهم القيمة الغنية بكل الجوانب الدينية والاخلاقية والعلمية والاجتماعية لردع الطغاة والتصدي للإنحرافات التي أوجدوها ودعموها لتنتشر بشكل وسيع بين ظهراني المسلمين، فتربى على يده (ع) أكثر من أربعة آلاف عالم في مختلف صنوف العلوم الدينية والحديثة.
فجر الامام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) ينابيع العلم والحكمة في الأرض وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل وقد "ملأ الدنيا بعلمه" كما يقول الجاحظ، وأنصبّت إهتماماته (ع) على إعداد قيادات واعية ودعاة مخلصين يحملون رسالة الاسلام المحمدي الأصيل الى جميع الحواضر الاسلامية مرشدين ومعلّمين لنشر مفاهيم العقيدة الحقة وأحكام شريعتها من خلال توسيع نشاط جامعة أهل البيت التي أسس نواتها والده الامام الباقر (عليه السلام)، ليركز الجهود العلمية في مختلف الاختصاصات من فلسفة وعلم الكلام والطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفضاء وغيرها، بالاضافة الى وضع القواعد والأصول الاجتهادية والفقهية كركيزة متينة للتشريع الإسلامي تضمن بقاءه وإستمراريته.
إشتهر من طلابه علماء أفذاذ في مختلف العلوم والفنون منهم المفضل بن عمرو وهشام بن الحكم ومحمد بن مسلم وجابر بن حيان وعبد الله بن سنان، كما نهل من علومه مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة ونقل عنه عدد كبير من العلماء أمثال أبي يزيد ومالك والشافعي والبسطامي وابراهيم بن أدهم ومالك بن دينار وأبي عيينة ومحمد بن الحسن الشيباني، مما حدا بمالك بن أنس الى القول: "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق (ع) فضلاً وعلماً وورعاً وعبادة".
إستطاع الامام جعفر الصادق عليه السلام الذي نعيش هذه الأيام ذكرى إستشهاد المفجع على يد أعتى طواغيت العصر العابسي "المنصور الدوانيقي" في 25 شوال سنة 148 للهجرة (765م) بدس السم الى طعامه عبر واليه في المدينة، ورغم الاجواء السياسية المضطربة في جو مشحون بالعداء والارهاب والتجسس والملاحقة؛ إستطاع بحکمته وقوة عزيمته أن يؤدي رسالته وان يفجر ينابيع العلم والمعرفة ويخرج جيلا من العلماء والفقهاء والمتکلمين.. فقد روى أبن طاووس في کتابه "نهج الدعوات" إن المنصور أستدعى الامام الصادق (ع) سبع مرات ليفتك به ونجاه الله عزوجل من کيده.. فكان أبا عبد الله الصادق عليه السلام منهلاٌ عذباٌ لرواده، ومنتج لقصاده.. يزدحم أهل الفضل في رحابه، ويشرفون بتقبيل أعتابه.. والكل يرجع بطاناً مرويّين يشهدون بقوة حجته وشدة عارضته، يذعنون له تسليماً وإطمئناناً، ويعترفون بمرجعيته تقديراً واحتراماً.
فرض الامام الصادق (ع) إمامته ومرجعيته القيادية من الناحية العلميَّة والفقهيَّة، بحيث لا يملك كبار العلماء من المذاهب الاسلامية الأخرى إلاَّ أن يعترفوا بذلك كاعتراف أبي حنيفة قائلاً:"ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لمَّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّء له من المسائل الشداد، فهيَّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلمَّا بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور فسلَّمت وأومأ فجلست ثم التفت المنصور فقال: يا أبا حنيفة: ألقِ مسائلك على أبي عبد الله فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا حتى أثبت على الأربعين مسألة ما أخلّ منها مسألة واحدة، ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".
قصـده الطالبون من مختلف البلاد والأقاليم حتى اجـتمـع في مـحضره أربعة آلاف طالب علم، فألقى عليهم (ع) من غوامض الحكم وحقائق العلوم، وأظهر ما أخفى آباؤه وأجداده خوفا من فراعنة بني أمية، فشرع بترويج حقائق الشريعة المحمدية الاصيلة وإظهار أسرارها، وبيان رموزها ونشر أحكامها، حتى أشرقت شمس الهداية على البلاد، وسطع نور العلم على العباد، وكل أخذ على قدر ذوقه واستعداده واشتياقه من الحكمة والفقه والأخلاق وسائر العلوم مثل الجغرافيا وحتى الكيمياء ومن الجاذبية ودوران الأرض حتى علوم الخلايا والطب و... غيرها رغم انه (ع) في أواخر عمره حاصره المنصور العباسي من كل صوب وحدب وشدد عليه الضغط ولم يترك له مجالا للتدريس والتعليم، لكن الامام جعفر الصادق(ع) تمكن من اسدال أشعة معارفه على مشارق الأرض ومغاربها وأرسل عنوان التشيع الى شعوب الأمة وقبائلها، ومن هنا سميت الشيعة الاثنا عشرية بالجعفرية، وأصبح رئيسا للمذهب صلوات الله عليه وعلى آبائه الطيبين وأبنائه الطاهرين وأصحابه المكملين وشيعته المقهورين أجمعين ما دامت السماوات والأرضين.