للشهادة والشهيد منزلة ومقام عظيم عند الله تعالى ، والشهادة كرامة وشرف يخص بها الله تعالى اوليائه وأحباءه من دون سائر الخلق ، ومما خص به الله تعالى الشهداء وحباهم به من عظيم آياته هو قوله عز من قائل ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، ولا يخفى على القراء الكرام ما تضمنته الآية الكريمة أعلاه من فضائل الشهداء وعلو مكانتهم ومقدار كرامتهم وعظيم منزلتهم بخلودهم وفوزهم بالحياة الأبدية .
لذلك كانت ولا زالت لحظة الشهادة هي أمنية لكل الصالحين والمصلحين ، ولما للشهداء من منزلة خاصة في عليين فلا نستغرب حين نرى شهيد المحراب الاعظم أمير المؤمنين علي (ع) يغبط الشهداء ومقامهم ويهاتف ربه في دعائه ومناجاته بقوله " نَسْأَلُ اللَّه مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ " .
ولان الشهداء عبدوا طريق الحرية بدمائهم الزاكية ، وأناروا درب العز والكرامة لكل الاحرار السائرين على دربهم بمشاعل البطولة والفداء ، فإن استذكار تضحياتهم واحياء مواقفهم من خلال تخصيص يوم للاحتفاء بالشهيد والشهداء عموما ، او احياء ذكرى ايام رحيل قرابين الشهادة ، هو أبسط أنواع عدم النكران ورد المعروف والشكر لتضحياتهم العظيمة وجودهم بالنفس ، وهو أقصى غاية الجود والكرم والعطاء الانساني النبيل ، وهو كذلك نوع من البعث والاحياء للمبادئ والاهداف السامية التي ضحوا من اجلها .
في الأيام السابقة واللاحقة من هذا الشهر نستذكر ونحيي ثلاث مناسبات أليمة لثلاث شخصيات عظيمة في تاريخ العراق عموما والشيعة خصوصا ، شخصيات حملت رسالة الثورة والمقاومة للظلم والظالمين طوال سنوات حياتهم الحافلة بالمأثر والبطولات والمواقف .
فقبل اسابيع مرت علينا ذكرى أربعينية مهندس انتصارات العراق العسكرية في معركته لتحرير أراضيه من دنس الاحتلال التكفيري الداعشي ، الشهيد القائد ابو مهدي المهندس (رض) القيادي الميداني البارز في عمليات تحرير الموصل وباقي مدن العراق ، والذي كان رمز للتلاحم الوطني بين فصائل الحشد الشعبي وبكافة اطيافه الاجتماعية ، ولقضية انسانية وطنية نبيلة تهدف الى تحرير ابناء السنة والايزديين والتركمان والكرد الفيليين وغيرهم من قبضة العصابات التكفيرية ، وقد أستشهد هذا البطل غدراً في ظلام الليل الحالك على يدي قوات الاحتلال الامريكي التي استهدفته عن عمد وقصد لضرب أحد أهم ركائز القوة العسكرية للعراق وقواته الامنية الباسلة والقائد الميداني للحشد الشعبي القوة التي قهرت في شهور وبإمكانيات محدودة دويلة الخرافة الداعشية وهزمت فلولها شر هزيمة وهوما عجزت عن تحقيقه الآلة العسكرية الضخمة للأمريكان وحلفائهم طوال سنوات .
وقبل أيام أيضا استذكر العراقيون شهادة السيد محمد الصدر (رض) والذي استطاع بكفنه وصلاة الجمعة والحشود المليونية التي التفت حوله من ان تقض مضاجع النظام الصدامي البعثي ، وافقدت الدكتاتور وحزبه رشده وصوابه بعد أصبحت هتافات الصدر الغاضبة من على منبر جمعته في الكوفة والمنددة بالحكم البعثي وممارساته القمعية قضية رأي عام ، واصبح التجاهر بالعداء والرفض للنظام البعثي الحاكم سمة بارزة في الشارع العراقي خصوصا بعد خطوات الشهيد الصدر الذكية اثناء قمة مواجهته لصدام وحزبه والتي كان من أبرزها الصلاة الموحدة التي دعا له السيد الشهيد الصدر بين السنة والشيعة ، فكانت المبادرة الشعبية التي اثمرت عن صور صادقة من التلاحم الوطني والديني بين الطائفتين وهو ما سرع في اتخاذ البعث لخطوات وقرار التصفية الجسدية بحق الشهيد الصدر (رض) في العام 1999 م .
اما الشخصية الثالثة التي نستذكر تضحيتها في هذه الايام فهو السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (رض) والذي استشهد أثر تعرض موكبه للتفجير في واحدة من اقدس بقاع الارض الا وهو مرقد امير المؤمنين علي (ع) في عملية ارهابية استهدفت انتهاك حرمة الاسلام والمذهب والحوزة العلمية في النجف الاشرف واغتيال الشهيد الحكيم الرمز الوطني والديني الكبير .
لقد استهدف اعداء العراق السيد الحكيم بوصفه أحد أهم رموز العمل الإسلامي السياسي والاجتماعي والفكري والديني في عراق ما بعد 2003 م وسقوط نظام البعث الصدامي ، لقد كان الاستهداف لشخص السيد الحكيم استهداف مخطط ومعد له منذ الساعات الاولى لدخوله للعراق والحفاوة والاستقبال والالتفاف الجماهيري الكبير حوله وأخيرا استقراره في النجف الاشرف وحضوره المؤثر في هذه المعادلة السياسية الجديدة بما يمتلك من رصيد فكري وسياسي واجتماعي وديني ، لذلك كان اعداء العراق الجديد يدركون جيدا أنه يمكن ان يشكل عائقاً وسدا منيعا امام المخططات التي وضعت للحالة التي يريدونها للعراق الجديد ، ولقد أوضخ وافصح السيد الحكيم من خلال خطبه وكلماته بصراحة وبوضوح الى رفضه لكل تلك المخططات التخريبية ودعوته لحوار ومشاركة وطنية واسعة لكل ابناء الشعب العراقي في المعادلة السياسية الجديدة لإسقاط كل رهانات ومخططات تقسيم العراق وتفتيته الى دويلات واقاليم على أسس قومية وطائفية .
اننا نؤمن بيقين راسخ وإيمان قاطع بأن الشهداءُ أجلُّ وأسمى من التأبين ، الا ان اقامة محافل التكريم والثناء للشهداء العظام الابرار واستذكار مواقفهم وبطولاتهم ، وتخليد مأثرهم وتضحياتهم ، يجب ان يكون حافزا للسعي الحثيث لتحقيق أهدافهم والسير على خطاهم المباركة ، فلقد كان الرموز الثلاثة من شهدائنا العظام رموزاً لكل ابناء العراق قبل ان يكونوا رمزاً للشيعة ، فسيرتهم ومسيرتهم الوضاءة كانت حافلة بالمواقف الوطنية التاريخية هي سمتهم البارزة والتي كانت بالإضافة الى صلابة مواقفهم المبدئية سببا في استشعار اعدائهم المستكبرين الظالمين خطورة وجودهم فعملوا على اغتيالهم جميعا لينالوا شرف الشهادة وسعادة الاخرة وذلك هو الفوز العظيم ..