في مجتمع كان يسوده الظلم والاجحاف , يتمرغ فيه الطغاة في وحل الرذيلة , يسوده الشرك والبعد عن الحقيقة ناصعة البياض , حتى وإن كان هؤلاء يدعون إنهم سدنة الكعبة وحماتها وأولى الناس بها , تكبروا وميّزوا أنفسهم عن سائر البشر , ووضعوا لأنفسهم ما جردوا غيرهم عنه , وقسموا مجتمعهم الى ثلاث طبقات :
1- طبقة السادة والأشراف: تضمنت السكان الأصليين وبعض الأغنياء.
2- طبقة وسطية شملت الغرباء والعتقاء .
3- طبقة العبيد.
بالتأكيد احتفظوا لأنفسهم بأفضل الطبقات تكبراً وغروراً , وزيادةً في العنجهية , فساد الظلم , ظلم الأنسان لأخيه الأنسان , وارتكبت أبشع الرذائل , حتى كانت الرذيلة مما يفتخر به , ولا يخجل منها كما هو المفترض.
وفقاً لمعطيات الطاقة السلبية مجتمعاً كهذا كان مغموراً بها , فجميع مسبباتها كانت ماثلة ومتاحة , فمنها لا على سبيل الحصر:
1- الظلم والمظلومين وصرخاتهم وأنينهم , له أكبر عامل مساعد لانتشارها , بل هو أكبر مولد لها.
2- الرذائل : بكل أنواعها تعد من أكبر مسببات الطاقة السلبية.
3- القتل: من أكبر العوامل لها , وكفى بالموؤودات مثالاً.
من المعطيات الحتمية , إن الشياطين تتغذى على الطاقة السلبية , بها تنمو وتترعرع وتقوى وتنشط , وبها تكون عناصر فاعلة أكثر , وبدونها يكون العكس ، فالشيطان هو البؤرة التي تجذب الطاقة السلبية حولها ، وبها تنشط أو تضمحل .
وايضاً , في مجتمع كهذا لابد أن يكون هناك مصدراً للطاقة الإيجابية , وإن كانت خافتة , وإلا لهلك سكان هذه المدينة على مبدأ (لو خليت قلبت) , فكان هناك بنو هاشم متمسكون بالطاقة الإيجابية وبكل عناصرها , ومعهم عدة من قبائل العرب التي لازالت تدين بالحنيفية كقبيلة بني عامر.
بمجرد ان وصلت الطاقة السلبية أوجها , نزل القرآن الكريم في مواجهتها , فنزل على خير البشر وأكثرهم قدرة على احتمال تبعات الدعوة الإسلامية , فكان لها وأهلها.
تتجلى الطاقة الإيجابية في نصوص القرآن الكريم واضحة , فمن المعروف إن الطاقة السلبية ظلام لا نور فيها ولا معها , والطاقة الإيجابية نور لا ظلام فيها ولا معها , فصدح القرآن الكريم {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }إبراهيم1, {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }التغابن8, النور يفتح البصر والبصيرة وينير الدرب ويكشف عن الطريق الأقوم {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }المائدة16, بدون هذا النور لا يمكن الاهتداء الى الصراط المستقيم السوي.
هذا من جهة , ومن جهة أخرى , فإن الخوف والحزن من عوامل الطاقة السلبية الكامنة والمؤثرة على فعاليات الأنسان النفسية والعضوية , بذا تمكن المؤمنون الأقوياء من نفي الخوف والحزن عن أنفسهم بعد ان تجردوا من الطاقة السلبية بتوفيق رباني {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }يونس62, تشير أكثر كتب التفسير الى إن مضمون الآية الكريمة في الأخرة , لكن الحال لا يتنافى حين يكون ذلك في الدنيا أيضاً , وهذا هو الملحوظ في سير الأنبياء "ع" وكذلك سير الصالحين , ثم نلاحظ أمراً غريباً في نفس الآية الكريمة وجود الأداة (أَلا) , فلو اقتطعت منها {إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لن يكون لها التأثير المطلوب , وذلك لأن الأداة (أَلا) تخاطب العقل الباطن , كتنبيه وتحفيز , حيث إن مدارات عمل الطاقة بنوعيها الإيجابية والسلبية في العقل الباطن إن لم يكن حصراً ففي أغلب الأحوال.
طالما إن مدار عمل الطاقة في العقل الباطن نلاحظ إن أغلب الآيات الكريمة تختتم بمحفز موجه بدقة وعناية فائقة صوبه, من قبيل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }البقرة44, {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }الأنعام32, يلاحظ إن سياق الآيتين سيكون ضعيف التأثير لو تجاهلنا أو أقتطعنا (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) منهما , كذلك الحال في الآيتين {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }البقرة207, صدر الآية بخاطب العقل الواعي , أما ختامها (وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) موجه نحو العقل الباطن , الحال نفسه في الآية الكريمة {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }النور20, حيث كان يمكن الإكتفاء بصدر الآية (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) مخاطباً العقل الواعي فما الداعي لختامها بـ(وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) , الرأفة والرحمة سوف تنسل الى العقل الباطن بأريحية ويسر لا نظير لهما.