الإتيان بالجديد في أي حقل من حقول العلوم العقلية والنقلية وعموم الآداب والفنون الإنسانية، يمثل فتحا معرفيا قصرت خطوته أو طالت، له أن يطل على باب آخر يفتح مغاليق قفله، والعلوم تأتي بالعلوم كعين ماء مستفيض.
وإذا كان الفتح المعرفي في العلوم التجريبية هو أقرب للمنال لكل باحث يعكف في محراب مختبره وورشته، فإن الجلوس في محراب العلوم العقلية يطول، ولا يأتي الفتح إلا على فترات وعلى أيدي عقول قليلة الوجود أو هي نادرة في كل عصر، ولهذا لنا أن نعدد المئات من الأسماء التي صالت في ميدان العلوم التجريبية على طول حياة البشرية، ولكن دولاب العد والفرز في العلوم العقلية يتباطأ دورانه وتقل حركته وإن كثرت في العلوم النقلية، لكن تبقى الفاصلة كبيرة بين أعداد العلماء بين الحقول العلمية والمعرفية.
وهذا الامر ينسحب هو الآخر على الآداب والفنون، وبخاصة في مجال النظم والشعر، فديوان الأدب يحمل المئات من أسماء الشعراء والأدباء بيد أنَّ الذاكرة الإنسانية تظل محتفظة بعدد قليل من الأسماء اللامعة، ويكاد يبزغ في كل عصر من الأدباء والشعراء أقل من أصابع اليدين، فالعصر الجاهلي على قوة بيانه حمل إلينا سجله القليل من أسماء الشعراء واحتفظ العصر الراشدي والاموي والعباسي بأسماء قليلة شاخصة، وحتى في العصر الذي نعيشه، فإن أسماء الشعراء الفحول قلة قليلة.
ومن أبواب الشعر التي يقل فيها الفاتحون هو شعر الملاحم، فهناك شعراء كثيرون نظموا في حقول كثيرة وقلة منهم من يجيد نظم الملاحم الشعرية التي تتعدى أبياتها الألف التي عكف ناظموها على تنضيد عقودها لمدة طويلة وعلى فترات تتناول بطولة إنسان مشهود أو قصة شعب موعود أو مرحلة زمنية طالت أو قصرت، ثم تقوم الأجيال بتناقلها مستذكرة عصر الأجداد وبطولاتهم وملاحمهم، من قبيل ملحمة جلجامش السومرية وإلياذة هوميروس الإغريقية وشاهنامة فردوسي الفارسية والكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالية.
وإذا كانت الملاحم الشعرية جمعت بين الحقيقة والخيال وأضفت على الخيال مصداقية، فإن واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يوم عاشوراء للسنة 61 الهجرية مع (72) شهيدا من أهل بيته من الطالبيين لوحدهم والمئات من أصحابه وحرق خيامه وأسر عياله، تمثل الحقيقة المرة في تاريخ العرب والمسلمين وبل في تاريخ البشرية حيث لا يوم كيوم الحسين عليه السلام ولن يكون.
وخلال متابعتي للشعراء الذين نظموا في الإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة منذ القرن الأول الهجري وحتى الآن بحكم عملي في دائرة المعارف الحسينية منذ ربع قرن، وجدت قلة قليلة ممن نظم في الواقعة كلها وتعدت أبيات قصائدهم المائة أو نحو المائيتن، وعلى قلة الأبيات نسبة للملاحم الشعرية الكبرى لكن الشاعر فيها حاول الإلمام بمجريات واقعة الطف ليقدم صورة واضحة المعالم مع بعض التفاصيل، من قبيل ملحمة الشاعر الحسن بن راشد المخزومي المتوفى حوالى سنة 800 للهجرة وهي في (185) بيتا يتابع تفاصيل واقعة الطف الأليمة، ومثلها ملحمة الشاعر علي بن الحسين الحلي الشفهيني من شعراء القرن الثامن الهجري وهي في (159) بيتًا، وغيرهما، ويعتبر الشيخ عبد المنعم الفرطوسي المتوفى سنة 1404هـ (1983م) استثناءً من الشعراء حيث نظم ملحمة في أهل البيت من أكثر من أربعين ألف بيت في ثمان أجزاء اختص معظم الجزء الثالث بالإمام الحسين عليه السلام وواقعة الطف وما جرى قبلها وما بعدها.
أما الجديد في الملحمة العاشورائية هو ما أقدم عليه الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي صاحب الموسوعة الحسينية الشهيرة بفتح أدبي حين نظم ديوانا كبيرا في شهداء كربلاء واحدًا واحدا بدءًا من سيد الشهداء الحسين بن علي (ع) وانتهاءً بالرضيع عبد الله بن الحسين مرورا بكل شهداء الواقعة من الطالبيين والأنصار رجالا ونساءً أسماه "سفائن الأمل في الحسين والقُلل" ضم 477 قصيدة في جزئين نال الأول 235 قصيدة توزعت ضمن قوافي الهمزة حتى الشين وتوزع الإيقاع بين بحور الخليل القديمة وبحور الكرباسي المستحدثة، صدر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 550 صفحة من القطع الوزيري مع تقديم وتعليق بقلم الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين.
أنصار ومواقف
توزعت قصائد الملحمة الكرباسية على القوافي بالنحو التالي: الهمزة والألف:17 قصيدة، الباء: 28، التاء: 12، الثاء: 5، الجيم: 4، الحاء: 6، الخاء: 3، الدال: 58، الذال: 7، الراء: 64، الزاي: 5، السين: 11، الشين: 5، تناولت 203 شخصيات ومواقفها في واقعة كربلاء من نساء ورجال وأطفال، من شهداء وأسرى.
ويشكل هذا الديوان في واقعه مشاعل أدبية شعرية لبيان حقيقة الأنصار في كربلاء من نساء ورجال، وكان الأديب الكرباسي قد بحثهم بشكل مفصل في دائرة المعارف الحسينية في باب الأنصار في عشرة أجزاء ثلاثة للأنصار من الهاشميين ومثلها للنساء المشاركات في كربلاء وأربعة للأنصار من غير الهاشميين، صدر منها ثمانية أجزاء.
ولما كان هذا الديوان هو الوجه الآخر لباب معجم الأنصار من دائرة المعارف الحسينية، فإن الأديب الكرباسي مهّد له بقصيدة من الرجز المسدس المرفوع قال فيها:
ربّي تقبّل رثائي في القُلَلْ *** أعني حسينًا وأنصارًا كِلَلْ
بيّنتُ فيه شخصَ المنتدَبْ *** إسمًا ووصفًا كما أصلِ النَسَبْ
ويختم القصيدة بقوله:
خُذ جمعهم في كتاب جامعِ *** نظمًا أتى خدمةً للسامعِ
أنشأته في طريق المركنِ *** أيضًا لدى عودتي للمسكنِ
وهنا يشير الناظم إلى "أدب الطريق" الذي اشتهر به، حيث أخذ على عاتقه منذ خمسة عشر عاما أن يشغل نفسه في طريق الذهاب والإياب بين المنزل والعمل وبالعكس راجلا، بنظم الشعر حتى تحصَّل لديه أكثر من عشرين ديوانًا كبيرًا في حقول وأغراض مختلفة، وإذا اعتكف في محراب البحث والتحقيق حرَّر في أبواب الموسوعة الحسينية التي صدر منها حتى الآن 116 مجلدا، والتي قدّمها هدية لسيد الشهداء كما يعبر عن ذلك في قصيدة بعنوان "أفديك فؤادي" من بحر مسدس الرمل يقول في أولها:
هاكُمُ هديَ التلاقي بالمعادِ *** صرخةٌ تدوي على لحنِ الوِدادِ
لحبيب المصطفى أهدي كتابي *** هو وحيي وشعوري ومدادي
وتمنى الناظم لو أنه في كربلاء يفدي روحه مع شهداء كربلاء، ولكن حيث فاته هناك رفع السيف فإنه شحذ قلم دائرة المعارف الحسينية عرفانا ووفاءً للدماء الزكية، ولهذا يواصل بيان مشاعره:
يا حسين السبط خُذْ مني كتابي *** من يميني يوم لا ينجو المعادي
إن يكن قد فاتني العشرُ فإني *** يا شهيد الطف أفديك فؤادي
والعشر هنا إشارة إلى يوم العاشر من محرم الحرام سنة 61هـ أي يوم عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأنصاره، وحيث يقدم المحقق والناظم موسوعته ودواوينه على طريق إحياء دين الإسلام وما حملته النهضة الحسينية من رسالة عظيمة للبشرية، فإنه يرجو بذلك شفاعة الرسول الأعظم يوم الورود، يوم لا ينفع مال ولا بنون، من هنا فإنه يعلن صراحة في خاتمة قصيدة في رثاء الشهيد بكربلاء محمد بن العباس بن علي بن أبي طالب(ع) بعنوان "إبن لبابة" من بحر الهزج:
أعزّي المصطفى والمرتضى والمجــ *** ــتبى والمفتدى ثم ابن عباسِ
حبيبي يا رسول الله أوليكَ الــ *** ــعَزا فاقبل بذا واشفع لكرباسي
فالكرباسي فيما يحرر نثرا وينظم شعرا يرجو في خاتمة الأمر شفاعة النبي (ص) وأهل بيته الكرام، وهي شفاعة لا ينالها الا ذو حظ عظيم ومكانة لا يصل مرقاها إلا منظور هميم.
إشارات وإضاءات
كثيرة هي الإشارات والإضاءات المنبعثة من نوافذ أبيات الديوان، وكل إشارة أو إضاءة تكشف عن مكنة أدبية وفنية لدى الناظم في تطويع المفردة ووضعها في ميزانها، وبتعبير المقدم الدكتور عبد العزيز شبين: (والفنان من عرف كيف يكسو نصَّه من البديع زخرفا، ويبني له من المعاني عمدًا، ليس في نسج كسائه رقَّة، ولا وسَمَ صرحَ لفظه فلجُ، ولا يستقيم العمل الأدبي شعرًا إلاّ بأداتي اللفظ والوزن مجتمعين يسندُ أحدُهما الآخر، ولا يُقاس جمالُ الإبداع حتى تكتمل الأداتان معا) وهو ما جاء به الناظم في هذا الديوان، من هناك كما يضيف المقدِّم: (وسفائن الأمل للكرباسي .. ديوان شعري حماسي تعجُ فيه عاطفة الولاء للحسين (ع) وتكادُ تضاهي العاطفة نفسها التي رسمها بعض الشعراء فيما كتبوه من الملاحم التي رأيناها .. ديوان سفائن الأمل ملحمة أراد صاحبها أن يُضاهي بها تلك الملاحم وصفًا وموضوعًا، وكان الحسين (ع) جوهر الغرض فيه).
ومن بديع السفائن أن الناظم في قصيدة "رجال الغاضرية" وهي من الرجز المسدس السالم مُتَسَّعة الأبيات أورد فيها أسماء كل القبائل والعشائر التي اشترك أبناؤها في نصرة الإمام الحسين (ع) واستشهدوا معه، ومطلعها:
قوم لهم في العرب شأنٌ حاضرُ *** في نِينوى عُجمٌ أتوا قد ناصروا
وهذه القصيدة لوحدها هي في واقعها منظومة في الأنساب على طريقة المنظومات الشعرية التي ينظمها أصحابها لتسهيل العلم على القارئ في استيعاب مادة العلم عبر حفظه للمنظومة، من قبيل منظومة في النحو ومنظومة في الفقه ومنظومة في أصول الفقه ومنظومة في المنطق ومنظومة في الحساب وهكذا مثل منظومة "ألفية إبن مالك" في النحو.
ولا يقتصر مدح العشائر وشهدائها على الرجال دون النساء، فالمرأة في واقعة كربلاء لها دور مشهود قبل الواقعة وأثناؤها وبعدها، وقد بلغت الحمية بالمرأة أن فدت نفسها دون الحسين(ع) رغم أن المواجهة الحربية كتبت على الرجال دون النساء، وبتعبير الشاعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي المتوفى سنة 93 للهجرة:
كُتب القتل والقتال علينا *** وعلى النساء جرّ الذيول
لكن واقعة كربلاء سجلت حالات استشهاد عدد من النساء، والموقف النسوي وإن دل على شجاعة المستشهدة وغيرتها ولكنها من جانب أخرى تعكس انحطاط اخلاقيات المعسكر الأموي الذي تجاوز الأعراف ونواميس الحرب في الإعتداء على النساء، وفي هذا الديوان يخبرنا الكرباسي عن الموقف البطولي لأسرة عبد الله بن عمير الكلبي المتكونة من زوجته قُمر بنت عبد النمرية وابنه وهب وزوجته هانية، فالأسرة بأربعتهم نالوا الشهادة في كربلاء، في موقف قلّ نظيره بل ندر، من هنا فإن الناظم يصف الأم بأخت الرجال فيقول من الرجز المقبوض:
يا أخت الرجال يا أمّ وهبْ *** فيك النور قد تجلّى وغلَبْ
نعمَ الأسمُ ترتدي يا قمرا *** ذلٌ زال منك طرًّا وذهَبْ
وحيث تتزاحم القصائد في رثاء هذا الشهيد وتعظيم موقف ذاك الشهيد، فإن في واقعة الطف أشخاصا اختلف أصحاب الشأن في أثبات وجودهم في كربلاء أو نفيه، وهذا ما بحثه الأديب الكرباسي في معجم أنصار الحسين من دائرة المعارف الحسينية، وزاد في هذا الديوان أن سجل رأيه عبر النظم فأثبت وجود البعض ونفى آخرين، مثلما فعل مع سلمى بنت حجر بن عدي الكندية التي ذكرها الأديب اللبناني جرجي زيدان المتوفى سنة 1914م في روايته "غادة كربلاء" ضمن أسرى الركب الحسيني، وهي رواية جمعت بين الحقيقة والخيال، وفي المدعى يقول الناظم في قصيدة بعنوان "سلمى الكندية" من الرجز:
قد أدخل البعض في الأسرى *** تلك التي سُميت سلمى
جرجي روى قصّة فيها *** كان ادّعى أنها قربى
ثم يقطع قطع المحقق الفطن:
ذاك افترا حُبكُ واهٍ *** حتى وإنْ زيَّن المرأى
وعلى هذا المنوال يرفع الناظم اللبس عن شخصية معادية لأهل البيت(ع) أدخلها البعض في جملة أنصار الإمام الحسين وهو الأشعث بن قيس الكندي وهو ممن عادى الإمام علي(ع) فيما عادى ابنه محمد الإمام الحسين(ع) وعادت ابنته جعدة الإمام الحسن(ع)، فيقول من قصيدة بعنوان "إبن القيس" من مسدس الرمل:
أشعثٌ ليس كنجلِ القيس *** بالولا يُعرَفُ قيدَ الدرسِ
وهكذا يؤتينا الأديب الكرباسي في سفائنه من نيران كربلاء بقبس يضيء لنا درب المعرفة وهي موشاة بألوان البديع عن نصير للحسين عليه السلام أو نصيرة.
وإذا جاء الكرباسي في "سفائن الأمل" بفتح أدبي شعري لم يسبقه إليه أحد في رثاء الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره كل على حدة، فإنه جاء بسبق أدبي آخر سنقرأ خطوطه العريضة عما قريب، عندما نظم قصائد هجاء لكل من بان اسمه ورسمه من المعسكر الأموي مشاركا في فاجعة كربلاء في ديوان أسماه "وقود سقر"، ففي "السفائن" قلل شامخة باعت العاجلة برضى الخالق فظفرت بالدرجات السامية، وفي "الوقود" رماد هامدة باعت الآجلة برضى المخلوق فاستحقت الدركات الحامية.