يشكل الاتجاه نحو استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات اهم سمات القرن الواحد والعشرين لما له من تأثير على نمو الاقتصاد العالمي والمحلي على حد سواء. ومن المسلمات ان استخدامها في المجال السياسي له تأثير كبير على طبيعة النظام السياسي وبالتالي تطور الحياة السياسية ورفاه المجتمع.
فكانت خطوات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نحو اعتماد التكنولوجيا الرقمية ونظم المعلومات في مختلف مراحل العملية الانتخابية لتحقيق انتخابات حرة ونزيهة كونها تمثل الركيزة الاساسية لبناء النظام الديمقراطي و شرعية السلطة، والقضاء على اصوات التشكيك بالعملية الانتخابية ونتائجها من خلال معالجة الهفوات والهنات التي ترافق اعتماد الطرق التقليدية في تنفيذ مراحل العمليات الانتخابية ابتداء من اعداد سجلات الناخبين مرورا بتفاصيل يوم الاقتراع وانتهاء بعمليات الفرز و العد واعلان النتائج.
وقد مثل ادخال اجهزة العد والفرز الالكترونية على مستوى محطات الاقتراع في انتخابات مجلس النواب العراقي 2018، قفزة نوعية في استخدام تكنولوجيا المعلومات في العملية الانتخابية والتي لاقت ترحيبا محليا واسعا تجسد بفقرات قانونية ضمن قوانين انتخابات مجلس النواب العراقي للدورتين الرابعة والخامسة حيث نصت المادة (4) من قانون التعديل الثاني لقانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 45 في 2013 على ((تجري عملية الفرز والعد باستخدام جهاز تسريع النتائج الالكتروني .... ))(1) وبالرغم من الاعتراضات التي تلت اعلان نتائج الانتخابات في حينها وبعد اعادة الفرز والعد اليدوي لعدد كبير من محطات الاقتراع وبأشراف القضاء الا ان النتائج اكدت دقة ونزاهة الاجهزة الالكترونية مما حدى بالمشرع الى تأكيد تبني خيار العد والفرز الالكتروني في قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2020 في مادته الثامنة والثلاثون اولا والتي نصت على (( تعتمد المفوضية اجهزة تسريع النتائج الالكترونية وتلتزم بإعلان النتائج خلال 24 ساعة....))(2).
الا ان الاعتراضات التي رافقت اعلان نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي في دورته الخامسة وما تلاها من تظاهرات مشككة واعتراضات قانونية تمثلت بإقامة دعوى لدى المحكمة الاتحادية تطلب الغاء الانتخابات البرلمانية التي جرت في 10 / 10 / 2021 والتي ردتها المحكمة بقرارها المرقم (159 / اتحادية / 2021) الا ان القرار تضمن توصية مهمة تمثلت في الفقرة (13) منه والتي نصت على
((... تجد هذه المحكمة بوجوب حصول تدخل تشريعي من قبل مجلس النواب القادم لتعديل قانون انتخابات مجلس النواب رقم 9 لسنة 2020 واعتماد نظام الفرز والعد اليدوي بدلا من الالكتروني اذ ان نجاح الانتخابات وترسيخ مبادئ الديمقراطية عن طريقها يعتمد على مدى ثقة الناخب بمصداقيتها ونزاهتها ....)) (3).
وبعيدا عن كون اعتماد الية الفرز و العد هو خيار تشريعي من اختصاص السلطة التشريعية مالم يكن فيه خرق لمادة دستورية او قصور تشريعي يستوجب تدخل المحكمة الاتحادية لتصويبه ، بل ان المشرع اكد في قانون الانتخابات على ان اعتماد الية الفرز والعد الالكترونية جاء لضمان نزاهة العملية الانتخابية ، كما ان المحكمة الاتحادية ذاتها لم تحكم بعدم دستورية الفرز والعد الالكتروني عندما نظرت دعوى الطعن بقانون انتخابات مجلس النواب رقم 9 لسنة 2020 في الدعوة المنظورة امامها برقم (( 144 / اتحادية / 2021 في 14 /11/2021 ))(4).
الا ان المهم هو مناقشة موضوعة الفرز والعد اليدوي والالكتروني من الناحية الفنية والتنفيذية ومدى حصانة ورصانة كل منهما امام محاولات التلاعب والتزوير وهذا يتحقق من خلال التعرف على اهم مشاكل كل منهما ومزاياه.
يمثل الفرز والعد اليدوي طريقة مناسبة في الانتخابات المحدودة كانتخابات مجالس الادارة للشركات او الهيئات الادارية للنقابات والاتحادات كونها تتعامل مع عدد محدود من الناخبين يمكن انجاز عدها وفرزها امام الناخبين وفي وقت مناسب الا ان عملية فرز وعد الاصوات في انتخابات وطنية تتعامل مع عدد كبير من الناخبين وفي دوائر انتخابية متعددة يواجه صعوبات كبيرة يمكن ايجازها فيما يأتي:
1 ــــ خاضع لإرادة موظف الاقتراع الذي يقوم بعملية الفرز والعد.
2 ـــ ضعف تركيز موظف الاقتراع عند قيامة بعملية الفرز والعد لأنها تكون بعد نهاية يوم عمل طويل وشاق.
3 ــــ احتمالية انعدام وجود التيار الكهربائي اثناء عملية الفرز والعد مما يصعب مهمة القائمين عليها ويسمح بوجود الخطأ غير المقصود او المقصود.
4 ــــ يتطلب مواد لوجستية مختلفة كالاستمارات والاكياس وغيرها مما يشكل كلفة اضافية.
5ـــــ يتطلب وقت كبير لإتمام عملية الفرز والعد في محطات الاقتراع ومن ثم نقلها الى مكاتب المحافظات ومنها الى المكتب الوطني.
6 ـــــ تستغرق عملية ادخال البيانات وتوحيدها الى وقت يتراوح بين 30 – 45 يوم مما يؤخر عملية اعلان النتائج.
7ــــــ غالبا ما تحتاج الى عمليات اعادة فرز وعد لغرض ضمان دقتها ومصداقيتها وهذه العملية تعني عمل اضافي يمثل تكاليف وجهود اضافية مع مدخل لتلاعب محتمل.
8 ـــــ عملية ادخال البيانات وتوحيدها في مركز ادخال البيانات هو عمل يدوي مما يعني عدم دقته وامكانية التلاعب به.
في حين ان اعتماد الفرز والعد الالكتروني يساهم بتجاوز اغلب السلبيات اعلاه ويعزز الانتخابات برصانة اضافية كونه يجنب العملية التأثير البشري بدرجة كبيرة ليكون محصورا في اربعة محاور تقريبا:
1 ـــ الاجراءات والتعليمات الخاصة بيوم الاقتراع التي ستضمن في البرنامج الالكتروني لأجهزة الفرز والعد الالكتروني.
2 ــــــ الجهات التي تصمم البرامج الالكترونية لعمل الاجهزة والجهات التي تراقب مدى دقة ونزاهة وحيادية هذه البرامج.
3 ــــ مدى امكانية التلاعب بملفات النتائج عند نقلها عبر الاقمار الاصطناعية او في مركز ادخال البيانات وتبويبها.
4ـــــ الاعطال الميكانيكية والتقنية التي تصيب عدد من الاجهزة.
والمحاور الاربعة اعلاه ممكن معالجتها ووضع الحلول المناسبة لها من خلال النصوص القانونية ضمن قانون الانتخابات وكما حصل في قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2020 عندما تضمن في الفقرة الثالثة من المادة (38) التي تضمنت شرط التعاقد مع شركة فاحصة عالمية مع تشكيل لجنة وطنية لغرض فحص برمجيات الاجهزة المستخدمة ومدى دقتها والتي تبنى اساسا على مجموعة الانظمة والتعليمات والاجراءات التي تضعها المفوضية استنادا الى قانون الانتخابات النافذ، فتكون
رقابة الشركة الفاحصة واللجنة الوطنية شاملة لمطابقة الانظمة والتعليمات والاجراءات للقانون مع رصانة ودقة عمل الاجهزة الالكترونية، كما يمكن معالجة المحور الثالث المتعلق بضمان عدم التلاعب في النتائج اثناء عملية نقلها عبر القمر الاصطناعي من خلال اجراءات عديدة يكون بعضها طويل الامد الذي يحتاج كلف مادية عالية كأنشاء محطات استقبال ارضية في العراق لغرض الاستغناء عن استخدام المحطات الارضية الموجودة في الدول الاخرى كالإمارات على سبيل المثال او انشاء سيرفرات لاستلام النتائج وتوحيدها واعلانها في كل محافظة، وبعضها الاخر يتمثل بإجراءات متخذه اصلا من قبيل الرقابة المحلية والدولية وتزويد الاحزاب والتنظيمات السياسية المتنافسة بنسخ ورقية والكترونية من النتائج. اما مشكلة الاعطال التي قد تصيب عدد من الاجهزة في يوم الاقتراع فقد تكفلت فرق الصيانة والاجراءات الاستباقية لتلافي اي خلل قد يحصل في الاجهزة بهذا الموضوع مما لا يؤثر على سير عملية الاقتراع والحفاظ على حق الناخب في الادلاء بصوته.
نخلص مما سبق الى قناعة تامة بأرجحية عملية الفرز والعد الالكترونية على اليدوية لما فيها من دقة وسرعة وضعف لاحتمالات التلاعب المقصود وغير المقصود مقابل عملية يدوية تخضع في العديد من مفاصلها للإرادة والجهد البشري الذي يتأثر بعوامل عديدة ومختلفة قد ينتج عنها تلاعب في النتائج وبالتالي عدم التعبير الحقيقي عن ارادة الناخب مما يضعف قناعته بالعملية الانتخابية الذي يترجم مستقبلا الى شكاوى على المدى القريب وعزوف عن المشاركة على المدى البعيد.
المصادر:
1ــ قانون رقم ( 2 ) لسنة 2018 (( قانون التعديل الثاني لقانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 45 لسنة 2013 المعدل )) ، الوقائع العراقية ، العدد 4483 ،ص 2 .
2ـــ قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2020 ، الوقائع العراقية ، العدد 4603 ، ص 12 .
3- احمد طلال عبد الحميد ، تعليق على قرار المحكمة الاتحادية العليا المرقم (159 /اتحادية / 2021 ) ،الحوار المتمدن ، دراسات وابحاث قانونية ،2/1/2022 .
4ـــــ احمد طلال عبد الحميد ، المصدر نفسه .