تقول الحكمة القديمة: «إنّ رضى الناس لا يُكسب و ألسنتهم لا تُملك».
(1)
و الله هذا عيب ... عيب عليكم يا أمّ فاضل، لماذا لاتزوّجين ابنك فاضل؟ لماذا كلّ هذا التأخير فى سنَّة النبي() ... يا فاضل يا حبيبي! شمّر عن ساعديك... فى التأخير آفات... عجّل فى الخير... خير البرّ عاجله... يقول له الجيران و والأقارب و المعارف منذ أن لمحوا لدى فاضل أمارات الرّجولة فتغيّراً فى السلوك، بل رغبةً فى الزّواج ـ كما سمعوا منه لدى حديثه مع أحد رفاقه ــ و ما هى إلّا شهور حتّى عقد على إحدى بنات الجيران على عجل، إلّا أنّه أخّر حفلة العرس حتى تكمل البنت دراستها الجامعية.
(2)
متى يتم العرس؟ متى سيُقام حفل زفاف فاضل؟ متى تزّف إليه العروس؟ متى نشارك فى فرحك و بهجتك يا فاضل آغا؟... الأبعدون و الأقربون يردّدونها على مسمع منه و وراء ظهره أيضاً، فى الجلسات العائلية و فى غيرها من المناسبات. فأسرعت الأمّ فى التمهيد للزفاف و شراء مستلزماته، رغم ظروف مالية صعبة كانت تعيشها العائلة... و كان عرساً كما يحلو للجماعة لا كما يحلو لفاضل و أسرته.
(3)
و قرّر الزوجان تأخير الإنجاب لأسباب اقتصادية و غيرها و ها هما الآن فى السّنة الخامسة من زواجهما... لماذا لا ينجبان! يا ترى هل لهما مشكلة فى الإنجاب! قالته إحدى الزائرات من الحى خاصّة و المعارف من النساء أيضاً، حيث اتَّسعت دائرة التفسيرات اتساعاً عظيماً خلال خمس أوست سنوات.
(4)
و بعد أن مرّت سنوات سبع على الزّواج، وضعت زوجته أنثي، و بعد سنتين حملت بأخرى و بعدها بثلاث سنوات ولدت بنتاً ثالثة... مسكين فاضل! لا تضع زوجته إلّا الإناث؛ لاكتها ألسنة الجماعة ممن يهتمون بحياة فاضل الزّوجية بفضول، حتى اعترفت أمّها مرة بحزنها العميق على ولدها فى مجلس النساء.
(5)
و دارت الأيام دورتها، حتى قرّر فاضل بعد ما يقارب ثلاثين عاماً من زواجه، الهجرة إلى مدينة أخرى بعد أن أحيل إلى التقاعد حيث البنات قد كبُرن الآن... و فى موطنه الجديد جاءتهم يوماً إحدى الجارات و هى إمرأة عجوز يصرخ وجهها بأصلها القروي، جاءت للترحيب بالأسرة الوافدة و التعرف عليها ثمّ لأداء واجب الجوار ـ كما زعمت ـ ... قعدت عند زوجة فاضل فاتحةً كلامها بالدّعوات و المجاملات... حصلت السيدة الزائرة على معلومات وافية أشبعت إلى حد كبير حس فضولها... معلومات عن حياتها و عن ماضيها بكل تفاصيلها بل ببعض دقائقها، حتى دخلت على الضّيفة، البنت الكبرى لفاضل و هى تحمل صينيّة الشاي... سلّمت عليها بأدب و احترام، واضعة الصينية أمامها بعناية ثمّ اعتذرت منصرفة فى استحياء إلى واجبها...
ـ بسم الله! ماشاءالله! هل هذه ابنتك الكبرى؟
ـ نعم يا جارتنا.
ـ بنت الطيبين... جعلها الله سعيدةَ الحظ!
ـ هى الآن تدرس فى سنتها الأخيرة بالجامعة.
ـ على بركة الله!
ـ حياك الله وأبقاك.
و تجاذبت الجارتان أطراف الحديث النسائية المطوّلة، حتّى خلصت الجارة إلى القول مغيّرة جلستها، تخفيفاً لوقع كلام تحسبه ثقيلاً على الوافدة:
ـ كم عمر ابنتك بالخير؟
ـ ثلاث و عشرون سنة.
راحت تركّز عينيها على نقطة صغيرة فى زاوية غرفة الاستقبال متحاشية نظرات زوجة فاضل بعد أن لمحت فيها تغيراً حزيناً ملموساً انعكس على وجهها فانداح. فقالت لها:
ـ هل تعرفين يا حاجة! أنّا زوّجت ابنتى الكبيرة و عمرها سبع عشر سنة!
ـ ماشاءالله!
ـ الحقيقة ضقت ذرعاً من طالبى يدها و هم كانوا كثيرين جدّاً... تعرفين يا عزيزتي، أن تبقى البنت فى بيت أبيها أكثر من اللازم، هذا ليس جيداً بل ليس لائقاً بأسرة محافظة مثل أسرتنا و أسرتكم.
(6)
استمرت السيدة الزائرة فى حديثها الذى لم يكن خالياً من اللَّمز و الغمز؛ أمّا زوجة فاضل فكانت تستعيد آنداك ذكرياتها القديمة العائدة إلى قبل ثلاثين عاماً، مستغرقة فى أحزانها التى استجدّت، لاهية عن جارتها الثرثارة بهموم جديدة أثارت شجونها المنسيّة و همومها القديمة و هى تقول فى نفسها: إلهى متى يأتى يوم نَسلم فيه من كلام الناس!