السجاد.. شموخ وعظمة المقاومة السلمية وثورة الدعاء * جميل ظاهري

السبت - 27/08/2022 - 18:23

ما أروع الشموخ والسمو والعظمة والعزة والكرامة والإباء والتضحية والفداء والمقاومة اذا کانت كلها من صنع الإيمان بالله سبحانه وتعالى وصاغتها عقيدة السماء ونهج الأنبياء والأوصياء والأئمة المعصومين الهداة وأهل بيتهم الأباة عليهم السلام أجمعين لتبقى شامخة مرفوعة الرأس يشهدها التأريخ ويستشهدها ويتمسك بها المقاومين والأحرار على مر الزمان .
الامام الحسين سيد الأحرار والشهداء وسائر إخوته أبناء الامام علي بن أبي طالب بن أمير المؤمنين عليهم السلام، أرسوا صرح البطولة والتضحية والفداء والإباء بكل ما لهذه الكلمات من معان عندما قدموا الغالي والنفيس وأجساد مقطعة الأوصال في يوم عاشوراء عام 61 فداءً لإعلاء كلمة الله عز وجل واصلاح الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم في ليلتها ترسيخاً لرسالة السماء الحقة وإبقاء رايتها ترفرف عالية في ربوع المعمورة .
مدرسة عاشوراء بكل قرابينها الثمينة والعزيزة باتت المدرسة الوضاءة والمنهاج والمشعل المنير لدرب المضحين والمقاومين والمنتفضين في طريق كفاحهم الطويل والمرير مع الطغاة والفراعنة والأنظمة الديكتاتورية ومساعيهم لكبح جماحهم ومطامع واجرام الظالمين والسلطويين طيلة القرون الماضية والحالية ولتبقى شوكة في عيونهم مادامت الدنيا قائمة.
كان لا بد لهذه المدرسة الناصعة والسراج المنير أن تدوم وتستديم بمشيئة الباري سبحانه وتعالى فمهد لها الأرضية والعوامل والأسباب والأهداف وحمل عبئها الكبير سيد من السادة وإمام من أئمة الهداية الآلهية، والنور والدراية والبراهين الساطعة، ونبراس للعلم والزهد والتقوى والمآثر السنية ألا وهو الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام ومنذ اللحظة التي سقط فيها والده وأخوته وأعمامه وسائر أهل بيته وصحابتهم المنتجبين الأخيار، طريحي الأرض مقطعي الأوصال في صحراء كربلاء الدم وفاءاً للإسلام المحمدي الأصيل .
حاكت سيرة الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام سيرة الأنبياء والمرسلين، وشابههم بجميع ذاتياتهم، واتجاهاتهم، فهو كالمسيح عيسى بن مريم في زهده، وانابته الى الله عزوجل كالنبي أيوب في بلواه وصبره، وجده الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين الأخيار، في صدق عزيمته وسمو أخلاقه... ولا تحد نزعاته الخيرة وارصدته الروحية، وحسبه أنه وحده في تأريخ هذه الدنيا، قد عرف بزين العابدين ولم يمنح لأحد هذا اللقب سواه.
اقتضت الحكمة الالهية بقاء الامام علي بن الحسين السجاد حياً بعد ثورة عاشوراء ومجزرتها في كربلاء فكان الشاب الوحيد الذي نجا من المجزرة الرهيبة والفاجعة الدموية الوحشية التي حلَّت بأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كي يتمكن من نقل صورة حقيقية وواضحة وشفافة عن الحوادث والوقائع والمصائب وانتهاك الحرمات المقدسة التي جرت في الطفوف بعاشوراء الامام الحسين سيد شباب أهل الجنة وما جرى فيها.
من هنا انطلقت مسيرة الامام زين العابدين في توعية الأفكار المهجورة والمضللة وبرز بكل قوة على مسرح الحياة الاسلامية كالمع مفكر وداعية وسياسي إسلامي في تخليد الثورة الحسينية حيث استطاع بمهارة فائقة أن ينهض بمهام الامامة وإدامة نهضة والده الامام الحسين عليه السلام حيث حقق انتصارات باهرة عبر خطبتيه اللتان القاهما في مجلس المجرم "ابن زياد" في الكوفة وأمام الطاغية "يزيد" في الشام والتي كان لهما الأثر البالغ في إيقاظ الأمة وتحريرها من عوامل الخوف والارهاب والانحراف والتزييف والإعلام الموهم ليروي للناس كيف أن الحقيقة قتلت عطشى في كر وبلاء وسلبت وذبحت من الوريد الى الوريد وداست الخيول صدرها بحوافرها لا ذنب لها سوى أنها أرادت الإصلاح في أمة جده خاتم الأنبياء والمرسلين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أمرنا بذلك الدين الاسلامي الحنيف.
عاش الامام السجاد أقسى فترة من الفترات التي مرَّت على أئمة أهل البيت (ع) وعانى ما عانى وتحمل ما تحمل حيث عاصر بداية قمة الإنحراف الأموي بشكله الفظيع على كل المستويات خاصة الدينية منها، بأمّ عينه المِحن والبلايا والرزايا التي حلَّت بالاسلام وأهله وأسلافه الغيارى، فكافح وجاهد الانحراف والجاهلية والنفاق والاجرام الدموي القبلي الأموي عبر وسيلته النافذة والقاهرة وهو الدعاء الذي أضحى سلاحاً نافذاً في قلوب المؤمنين والاحرار في مقارعة الظلم والجور والفرعنة والتصدي للاستعمار والاحتلال والسلطوية، وتبيين ما حل بالأمة الاسلامية بعد رحيل جده الرسول الأعظم وما عانى منه والده وعمه وجده الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين .
حمل بنو أمية الطلقاء اللقطاء الحقد والضغينة ضد بني هاشم منذ اليوم الأول للرسالة المحمدية، نسل عن نسل حتى تجسد حقدهم وإجرامهم في مجزرة عاشوراء التي لم يسلم منها حتى الطفل الرضيع، ثم جاء دور الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي كان على شاكلة الفاسق الفاجر يزيد قاتل النفس المحرمة ومداعب القردة، فتحامل كثيراً على الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ذلك الطاغية الأموي الذي وصفه المسعودي بأنّه "كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً"- مروج الذهب : ٣ / ٩٦؛ وروى الزهري عن الوليد أنّه قال: لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا (الأغاني للأصفهاني، علي بن الحسين، ط بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1994 م؛ وحياة الإمام زين العابدين: ٦٧٨).
أجمع الوليد رأيه على اغتيال الإمام السجاد، فبعث سمّاً قاتلاً الى عامله على يثرب، وأمره أن يدسّه للإمام (تأريخ الخلفاء : ٢٢٣، وبحار الأنوار: ٤٦/١٥٣ عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ١٩٤، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين، ط بيروت، دار التعارف للمطبوعات 2000 م) ونفّذ عامله ذلك، فسَمَتْ روح الإمام العظيمة الى خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوى.. ودُفن الامام زين العابدين في البقيع الغرقد مع عمه الإمام الحسن، قرب مدفن العباس بن عبد المطلب (ابن منظور الأنصاري، مختصر تاريخ دمشق، د.م، الطبعة الحديثة، د.ت).
رغم كل المضايقات من السلطة الأموية الجائرة الفاسقة الفاجرة المجرمة، نجح الامام السجاد في إبقاء نهضة عاشوراء الامام الحسين حية ما بقي الدهر وبكلي شقيها "الحق المضيع والجسم المقطع" عبر وسيلة الدعاء والخطابة خاصة ما أفصح عنه في مجلسي المجرم "ابن زياد" في الكوفة والطاغية "يزيد" في الشام.. فأما الجسد المقطع فانتهت قضيته في يوم عاشوراء 61 عندما ذبحت الحقيقة وقطعت أوصالها إرباً إربا وان بقي الجانب المأساوي له يلهب القلوب أسفا حتى قيام يوم الدين وتتجدد ذکراه کل عام. 
لکن الحق المضيع هي القضية الأکثر خلود وبقاء لأن الأمة ترى في الامام الحسين رمزا للمبدأ الحر وروحا لجده الرسول محمد ووالده أمير المؤمنين علي صلوات الله عليهم أجمعين، حيث ذبح من الوريد الى الوريد مع أهل بيته واصحابه الابرار في سبيل الرسالة المحمدية الاصيلة وهو القائل: "إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين".. وقدم الغالي والنفيس في سبيل إعلاء کلمة الحق کلمة الاسلام کلمة الله سبحانه وتعالى .. وأضحى مناراً لكل الأحرار والمظلومين في كل مكان ولهذا ترى الشعوب العالمية برمتها وبكل أديانها أن الامام الحسين عليه السلام منهاجا ثوريا متکاملا.. وسيبقى خالدا ما خلد الدهر.
كان الامام علي بن الحسين السجاد من أقوى العوامل التي خلدت الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات، وظل يلقي الأضواء على معالم الثورة الحسينية، ويبث موجاتها على امتداد الزمن والتاريخ ، رغم كل ما استخدمته بني أمية من أنواع وأكثر الحيل لتضليل الرأي العام بسراب اعلامها وخديعته التي استوحت السذج من المسلمين وكان لابد من إظهار الحقيقة وتبيينها حتى لاولئك الذي تغافلوا عمداً لعدم معرفة أهداف الثورة الحسينية ودوافعها التي جاءت لاحياء الاسلام والسنة النبوية والسيرة العلوية وتوعية المسلمين وكشف الماهية الحقيقية للأمويين وإصلاح المجتمع واستنهاض الأمة عبر الدعاء لإنهاء استبداد بني أمية وتحرير ارادتها من حكم القهر والتسلّط وإزالة البدع والانحرافات واقامة الحق وتقوية أهله وتوفير القسط والعدالة الاجتماعية وتطبيق حكم الشريعة الصادقة عبر إنشاء مدرسة تربوية رفيعة وإعطاء المجتمع شخصيته ودوره.