كان الشيخ عبدالرحمن ولياً صالحاً من الأولياء، ممن قال الله تعالى عنهم: "سيماهم فى وجوههم من أثر السجود" و ممّن يقال عنهم: (نهاره صائم و ليله قائم)، إنّه وفد على مدينتنا قبل ما يقارب أربعة عقود... عُرف بزهادته و إيمانه و تقواه و بترفعه عن متاع الحياة الدّنيا و زخرفها و شهد بفرداته فى الإيمان، الصالحون و الطالحون على حد سواء ثم ذاع صيته فى البلاد فاكتسب بسبب خلائقه المحمودة العظيمة التى رزقه الله إياها، مكانة رفيعة بين العباد، و التفَّ الناس حوله على مرّ الأيّام و السنين فصار له أتباع و مريدون كثيرون من ذوى النفوس الطيبة و النوايا السليمة فى مدينتنا و فى المدن الأخرى المجاورة و قد أحب الجميع الشيخ حبّاً جمّاً و ذكروه فى غير محفل بالإجلال و التكريم و التزم بعضهم بركابه فى حلّه و ترحاله.
توافد كثيرون على مجلسه متبركين بأنفاسه القدسية العطرة و قد صار أمره مطاعاً و أقواله نافدة بين القوم، و فى كلمة واحدة صار زعيماً روحياً للجماعة بل قائداً فذاً للأمة.
و فى الآونة الأخيرة سمعنا أنّ رجلاً ظهر فى المدينة و اتّخذ بيته فى إحدى الحارات القديمة مركزاً له ليحدِّث هناك عن قضايا و أمور لم يسمع عنها أحد مِن أبناء مدينتنا حتى الآن، بل نقل غير نفر ممن حضروا مجلسه أنّه يلعب بعقول الشباب و ينشر بينهم أفكاراً مشبوهة بل يثير فيهم شكوكاً تُضعف معتقداتهم الّتى بذل الشيخ عبدالرحمن جهوداً كبيرة لتأصيلها فى نفوسهم، و قيل عن الرّجل فيما بعد أنه أتى بطريقة جديدة غير ما سمعوا بها فى الملة الأولين و روّجوا ضدّه أنّه حريص على نشر دعوته الغريبة، فاستطاع فعلاً أن يستميل قلوب بعض الشباب البسطاء ليزرع فيها بذرته الفاسدة و ها قد صار الآن له أتباع و صارت دعواته الضالّة المضلّة هماً رئيساً وحيداً للمؤمنين إذ شعروا بالخوف على دينهم و دين آبائهم الأولين ثمّ قد تفاقم أمر الرجل حتى أحسُّوا من جانبه بخطر عظيم.
و كان الشيخ عبدالرحمن على علم تامّ بنشاطات ذلك الرجل فى المدينة و بالطريقة التى يدعو إليها و قد اجتمع به مرة بعض وجوه المدينة و أعيانها من المؤمنين ليشاوره فى أمر الرّجل الوافد المشبوه و كيفية التصدى له و لأفكاره الضالة و طلبوا منه أن يضع حدّاً لدعاياته الهدّامة بل طلب بعض المتشددين من الشيخ السماح لهم أن يؤدّبوه و ينزلوا عليه عقاباً صارماً إذا لم تؤثر فيه التوصيات و لم تردعه النصائح و التحذيرات و قام بينهم أحد و قد انتفحت أوداجه غضباً وفوه زبداً ليقول: يا مولانا الأكرم إننا خائفون جدّاً على عقيدتنا و ديننا و على شبابنا، ها قد استشرت عدوى تعاليم هذا الرجل الزنديق بين الناس و أضلّت منهم جبّلاً كثيراً
مع كل هذا كان الشيخ عبدالرحمن و هو زعيم الجماعة يحثُّهم على الصبر و يدعوهم إلى التريث فى الأمر حتّى خطب فيهم مرة و قال ضمن ما قال: عليكم يا أبنائى و يا إخوانى أن تتحلَّوا بالصبر و بضبط النفس و بالتروِّى فى المسألة، سنجد باذن الله حلاً لهذه المشكلة ثم دعا لهم بقوله: نرجو من الله العلي القدير أن يبصرّنا فى ديننا و أن يهدينا إلى الطريق القويم... يا اخوان! الفرج قريب إن شاءالله، ثم استشهد ببيت من الشعر تلطيفاً للأجواء:
عسى الكرب الذى أمسيت فيه يـكـون وراءَه فــرج قـريـب
و لمّا أكمل الشيخ حديثه، قام أحد أتباعه المعروفين بالصّرامة و الجديّة و قال: يا شيخنا الجليل! إلى متى الصبر! أتعلم أنَّ هذا اللعين بلغ من الوقاحة حدّاً يوجّه إلى أتباعك من المؤمنين شتى أنواع التّهم بل إنّه يعدُّنا مخادعين دجالين! يا شيخنا الكريم أتسمي هذا صبراً أم قبولاً للذّل والمهانة! و فوق ذلك يا مولانا إنّه حسب ما سمعنا يذكرك شخصيّاً بالشّر بل يسميك زعيم الدّجالين و المخرّفين! والله لقد طفح الكيل و نفد الصبر. لكن الشيخ التزم الصّمت تجاه كلام الرجل و اكتفى ببسمة عابرة، و عدّ الناس موقف الشيخ هذا آية أخرى من آياته الإيمانية و الأخلاقية و دليلاً آخر على عظيم صبره و قوة شكيمته و سعة صدره.
و مرّت مدة مِن الزمن حتّى قرّر أحد المقربين إلى الشيخ يوماً أن يحشد الناس فى إحدى الساحات العامة للمدينة؛ فنودى بهم أن اجتمعوا يوم الجمعة ضحى و لما احتشدوا قال فيهم: يا أيّها الناس! إن شيخنا الإمام يستحى أن يقول كلمته بشأن الرجل، و لكن نحن لا نستحى من قول الحق، نريد أن نفقأ عين الفتنة اليوم و ليس غداً. لقد راجعنا إمامنا لنستأذنه بشأن الموضوع، لكن قالوا إنه قد خرج اليوم لزيارة أحد المشايخ و ها نحن المؤمنين من أتباعه اجتمعنا هنا لننفّذ أمر الله و أمر رسوله، نريد إسكات الشيطان الذى يلهم الرجل، نريد أن ننهى هذه المهزلة و نضع حداً لتمرده و أنتم تعلمون جيّداً إننا حذّرنا هذا اللعين مراراً و تكراراً عسى أن يعود إلى رشده لكن لم تفلح محاولاتنا لأنّه واصل نشاطه المشبوه رغم تحذيراتنا له و ها هو يتخدنا هزواً، ها هو يتحدانا بالاستمرار فى دعواته الكاذبة و ممارساته الشيطانية، بل راح يتمادى فى استهتاره لقِيَمنا و معتقداتنا حتى بلغ حدّاً يوجّه شتى أنواع التّهم إلى شيخنا و إمامنا المؤمن.
استطاع الخطيب أن يوغر صدور الناس على الرجل و أن يشحنها حقداً و كراهية على طريقته الباطلة، حتى انطلق الناس المتجمهرون نحو دار الرجل فى الحي الذى يقطن، يتقدمهم أتباع الشيخ الأشدّاء، انطلقوا و هم يرددون شعارات منددة للرجل و لنحلته الفاسدة المضلة... جابوا معظم حواري و أزقة المدينة، و فى طريقهم اندس بين الناس بعض المارة من الهمج و غيرهم ممن دفعتعم إلى مسايرة القوم دوافع غريبة كامنة و ما كادوا يصلون دار الرجل الزنديق حتى بلغوا من الغضب و الهياج حدّاً لايوصف و هناك داهموا البيت فجأة و ضجيجهم و صراخهم و لعناتهم تملأ الدنيا، و اجتمع خلق عظيم عند دار الرجل الذى كان يعيش فيه وحده، و شوهد بين الغاضبين غير واحد من الصبيّة و هم يرشقون المنزل بالحجارة و شوهدت نساء منقّبات و هن يوزّعن بعض المأكول على المجتمعين، كما شوهد رجال مؤمنون من أصحاب اللّحى و غيرهم يطلقون صيحات الله اكبر و شيوخ يكتفون بأن يهزّوا رؤوسهم أسفاً على الرَّجل و على عاقبته السّيئة و فجأة هجم الناس و بإشارة أحدهم على الدار فدخلوه فى تدافع شديد و هم يصرخون و يشتمون و فى الداخل أرشدهم أحد الجيران نحو غرفة فى زاوية الدار، كانت مغلقة فتطوَّع رجل عظيم الجثة فركل بابها الخشبي العتيق حتى كاد أن ينكسر، ركله بقوة غضب كامن المصدر فاصطدم الباب فى شدّة بالجدران المحاذية فانبعث منه صوت مخيف تبعته هزات شديدة فخفيفة حتى تلاشت تماماً. ها هم الآن وسط الغرفة شبه المظلمة حيث يدخل من كوّتها نور ضئيل كعمود مائل ممتد من الأعلى إلى الأسفل، و هناك توفقوا للحظة... موقف غريب حقاً، ها هم يسمعون أصوات أذكار و أوراد... تقدموا نحو مصدر الصوت... ثمه رجل قائم يُصلى لكن هناك رجلٌ آخر لمحوه يصلى خلفه... تبينوا وجهيهما جيّداً و إذا بالذى يأتمُّ بالرّجل هو إمامهم الشّيخ عبدالرحمن!