هكذا تكلم مظفر النواب / حيدر محمد الوائلي

السبت - 28/05/2022 - 10:40

المعارض في زمن كانت السياسة فيها لمن يحكم فقط. الرافض للظلم أيام كانت الناس راكسة فيه. الصوت الهدير ذو التعبير الخطير. الحالم وسط قصب الأهوار وهو مطارد ليقتلوه بعراق فيه حرية وكرامة وراحة بعد عناء في بلدٍ يُقدس الإنسان كما تُقدس الأديان. وطناً لا يباع ويُشترى في مزادات السياسة الرخيصة. لا دولة يحكمها متعصب جاهل، ولا يديرها حاقد قاتل.
مظفر النواب الشاعر الذي تولته أنظمة الحكم مطاردة ومتابعة أمنية ومنع لقصائده، وهو الواضع روحه أمامه أن تطير في أي لحظة لبارئها، أو يقفلوا عليها بالقضبان.

قال:
(سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان
وقنعت أن يكون نصيبي من الدنيا كنصيب الطير
ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان
وأنا لا زلت أطير
فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجونٌ متلاصقةٌ
سجانٌ يُمسك سجان)
 
هي كلمات ليست كالكلمات. ثورة شعرية رادعة وسط أنظمة ظالمة رادعة. ثورة شعر تحارب سلطة القتل والسجن والسلاح. بصيص أملٍ من الشعر الجميل يبعث النور في الليل الحالك الطويل أن يا نار أتقدي واشتعلي.

هو ذا مظفر النواب وشعره، وهو وما حوله وشعره ثورة متقدة النيران لم تطفئها سنين الحرمان والخسران والخذلان، فعذب الكلام صادقه لا يلفه قبر النسيان.

يبقى في كل زمانٍ ومكانٍ شاهد على تاريخ مضى وحضر وبقدر العطاء ووفق التصرف سيصنع الجيل المستقبل.

قال (ابوذية):
(غفل دهري يها الوادم ولاني
عبن ما غيرت جلدي ولاني -ولوني-
لا هو الوكت عف عني ولاني -ولا اني-
رضيت هدان يتفرعن عليه)
 

مظفر النواب الشاعر المعارض للظلم من المهد الى اللحد حيثما حل الظلم والظالمين والظلام. هرب من زنزانة سجنه ناشداً الحرية. قصة هروب حقيقية كجمال قصص سينمائية كفلم (الهروب) ل(احمد زكي) أو (The Shawshank Redemption) ل(تيم روبنز)، فيلجأ لأهوار جنوب العراق الثائرة ليكمل مسيرته الظافرة.


هو (مظفر عبد المجيد النواب)، والنواب من النيابة (الحكم)، إذ كانت عائلته في الماضي تحكم إحدى الولايات الهندية. في البدء استقرت العائلة في بغداد لارتباطها بسلالة الإمام موسى الكاظم (ع) المقتول بالسم في سجنه غيلة على يد هارون الرشيد. هاجرت العائلة للهند باتجاه المقاطعات الشمالية (بنجاب، لكناو، كشمير) ونتيجة لسمعتهم العلمية وشرف نسبهم، أصبحوا حكاماً لتلك الولايات في مرحلة من المراحل.

بعد استيلاء بريطانيا على الهند، أبدت عائلة (النواب) روح المقاومة والمعارضة المباشرة للاحتلال البريطاني، فنفوهم على أثر ذلك للعراق بلدهم الأم حيث تغفو أمجاد العائلة وماضيها ومراقد الال من أثر الرسول (ص).

اضطر مظفر لمغادرة العراق، بعد اشتداد التنافس الدامي بين (القوميين) و(الشيوعيين). كان (البعثيون) يراقبون بمكر وحقد لينقضوا على العراق يفترسوه وحصل لهم ما خططوا له، فكان هروب (مظفر النواب) الى إيران عن طريق البصرة. لكن المخابرات الإيرانية أيام حكم الشاه (السافاك) ألقت القبض عليه وهو في طريقه الى روسيا، حيث أخضعوه للتحقيق البوليسي وللتعذيب الجسدي والنفسي لإرغامه على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها.

سلمته السلطات الإيرانية الى الأمن السياسي العراقي، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، إلا ان المساعي الحميدة التي بذلها أهله وأقاربه أدت الى تخفيف الحكم القضائي للسجن المؤبد.

في سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) القريب من الحدود العراقية-السعودية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نقلوه لسجن (الحلة) في بابل.

 

في سجن (الحلة) الموحش يقوم مظفر النواب ومجموعة من السجناء السياسيين بحفر نفق من الزنزانة المظلمة يؤدي الى خارج أسوار السجن فأحدث هروبه مع رفاقه ضجة مدوية في أرجاء العراق وجواره.

كانت خطة الهروب بتشكيل لجنة داخل السجن ضمنهم مظفر النواب. تم حساب المسافة الواجب حفرها من البداية وحتى نهاية سياج السجن حيث يوجد (كراج) وقوف سيارات الحمل. يبدأ العمل بحفر حفرة تقدر بمترين عمقاً ثم الأنحراف بضعة أمتار لليسار وحتى يصل النفق الى باحة (الكراج).

جرى تهيئة مستلزمات الحفر التي هي عبارة عن أدوات بسيطة لا تتجاوز الملاعق والسكاكين وأدوات حديدية صغيرة معمولة على شكل فؤوس لا تلفت النظر.

بدأ الحفارون الحفر وأحاطوه بالسرية التامة. كانوا يتفننون بالتخلص من تراب الحفر الذي أصبح معضلة كبيرة نظراً لكثرته.

وبعد أيام طويلة من الحفر حلت ساعة الهروب، حيث هرب خمسة وأربعين سجيناً. أُلقي القبض على أربعة عشر منهم فيما بعد، في حين مضى بقية السجناء الهاربين كل في أتجاهه لغرض الألتحاق بصفوف المناضلين المناوئين للحكم الدكتاتوري في العراق أو بكل بساطة للخلاص والحرية.

بعد هروب مظفر النواب المثير من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها ستة أشهر، ثم توجه الى أهوار جنوب العراق ومن ثم الى (الأهواز)، وعاش مع أهلها هناك قرابة سنة.

كرس مظفر النواب حياته لتجربته الشعرية وتعميقها، والتصدي للأحداث السياسية التي تلامس وجدانه الذاتي وضميره الوطني.

يصوغ في شعره أن عاهرة في حانة هي أفضل ممن يبيع قضيته ووطنه وشعبه من رؤساء وحكام وملوك وسياسيين ورجال دين.

قال:  

(مهلك سيدتي

لم يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والأخضر
ويدافع عن كل قضايا الكون
ويهرب من وجه قضيته!)
مظفر النواب شاعر ذو عينين لا أعور ليس كمثل من ينظرون بعين مصلحتهم وهواهم. عندما يتمنى البعض أموال وثروة ومنصب، كان مظفر النواب يتمنى أن يسقط القمع والظلم، وأن يعود المنفيون بسبب مزاجيات الحاكمين وفسادهم لأوطانهم

قال:

(أي إلهي
إن لي أمنية
أن يسقط القمع بداء القلب
والمنفى يعودون الى أوطانهم ثم رجوعي)

مظفر النواب شاعر أحب العراق وأحبه، وشاعر ملأ قلبه حباً للعراق ودافع عن حريته شاباً صغيراً وشيخاً كبيراً.  

هو الحالم في بلد يُقدس الإنسان كما تُقدس الأديان فالإنسان والأديان قدسية واحدة، ولأن الإنسان أصل التشريع وأساسه ولأجله جاءت الأديان كتطبيق وتنظيم عملي لسعادته ونجاته.

ولا إنسان بلا وطن، كيف يعيش بلا وطن؟ّ لئلا يكون الوطن جحيماً لا يطاق بسبب حاكميه وسياسييه يسمونه سوء العذاب.
قال:

(يا وطني المعروض كنجمة صبحٍ في السوق

في العلب الليلية يبكون عليك

ويستكمل بعض الثوار رجولتهم

ويهزون على الطبلة والبوق

أولئك أعدائك يا وطني)

فلسطين عنده جرح عميق يذر اعداءه الملح عليه ليزيد الوجع، خيانات وخذلان ولكن رغم ذلك تبقى فلسطين في القلب والروح والفكر.

قال:

(من باع فلسطين سوى أعداؤك أولئك يا وطني.

من باع فلسطين وأثرى بالله

سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام ومائدة الدول الكبرى

فإذا أذن الليل تطق الأكواب بأن القدس عروس عروبتنا
أهلاً

أهلاً
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل الى حجرتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة!

هل تسكت مغتصبة)

يبرر مظفر النواب (الجرأة) بالألفاظ في جملة قالها في أحد المناسبات.

قال:

(هذه القصائد لم تكتب لمناسبة

كُتِبَت لدهرٍ من الحزن والتحدي

لا خوف أن يطول ما دمنا ننبض

والأفضلون يحملون السلاح

بعضكم سيقول بذيئةً

لا بأس

أروني موقفاً أكثر بذاءةً مما نحن فيه!)

أعداء الوطن سياسيين (فاسدين) ورجال دين (فاسدين) وأحزاب (فاسدة) وجماهير جاهلة مغفلة (فاسدة) ليصنعوا بمجموعهم نظام حكم (فاسد).

يعرف مظفر النواب أساس المشاكل ولبها، ويصرح بها علانية ولا يخاف وذلك لسبب وحيد وكبير وهو أنه شجاع وواعي. شاعر كان سلماً لمن سالم العراق، وحرباً لمن حاربه.

قال:

(كل شيءٍ طعمه طعم الفراق
حين لم يبق وجه الحزب وجه الناس قد تم الطلاق
حينما ترتفع القامات لحناً أممياً ثم لا يأتي العراق
كان قلبي يضطرب

كنت أبكي
كنت أستفهم عن لون عريف الحفل
عمن وجه الدعوة

عمن وضع اللحن

ومن قاد

ومن أنشد
أستفهم حتى عن مذاق الحاضرين
يا إلهي

يا إلهي

يا إلهي
إن لي أمنية ثالثة
أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزين
ولقد شط المذاق
لم يعد يذكرني منذ إختلفنا أحدٌ

في الحفل غير الاحتراق
كان حفلاً أممياً
إنما قد دُعي النص ولم يُدعَ العراق)

مظفر النواب الشاعر الذي تنبأ بضرورة المطالبة بالحقوق من غاصبيها لكيلا يصبح حالنا فقراء منسيون بين حكومات الكَسَبَة.

قال:

(أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربيٌ واحدُ إن بقيت حالتنا هذي الحالة
بين حكومات الكَسَبَة)

مظفر النواب الشاعر الحالم بالعدالة والكرامة، وأن يكون الحاكم قدوة للرعية لا لعنة تتعوذ منه الناس أناء الليل وأطراف النهار. هذا الحالم الثائر وجد ضالته في الأمام علي (ع) رمز العدالة الإنسانية. الأمام علي (ع) من كانت حكومته من أصدق شواهد الحكم العادل والمنصف وإحقاق الحقوق والدفاع عن الحق.

لقد ميز مظفر النواب بين عدالة ووعي وفكر الامام علي (ع) وبين خيانة وجهل وحقد حكام آل أمية ومن سايرهم ورضى عنهم وترضى، وكيف أن الخيانات والمفاسد تبرر وتهون متى ما تدخّل الدين (الفاسد) والمال (الفاسد) والسياسة (الفاسدة) مشاهد تتكرر عبر التاريخ ولليوم.

قال:

(أحمل لبلادي
حين ينام الناس سلامي
للخط الكوفي يتم صلاة الصبح
بإفريز جوامعها
لشوارعها
للصبر
لعلي يتوضأ بالسيف قبيل الفجر

أنبيك علياً
ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف
وما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
يا ملك البرق الطائر في أحزان الروح الأبدية
كيف اندس كزهرة رؤيا في شطة وجد صوفية
يمسح عينيه بقلبي في غفلة وجد ليلة
يكتب فيّ
يوقظ فيّ
ماذا يكتب فيّ
ماذا يوقظ فيّ
يا مشمش أيام الله بضحكة عينيك
ترنم من لغة القرآن فروحي عربية)

ومع الحسين (ع) ثائراً وشهيداً. يرفعه مظفر النواب شعاراً وفكراً. عرف الحسين ثورة حق يأبى التاريخ أن ينساها، ويأبى كل مظلوم إلا يمسح قلبه بعبق تراب الدم (بكربلاء) وثورة الحسين (ع) التي لا تزال صدى كلماتها تنير درب الواعين للوعي والثائرين للثورة والمصلحين للأصلاح (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) (ألا أن الدعيّ إبن الدعيّ قد ركز بين إثنتين بين السلة والذلة وهيهات منّا الذلة) (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديانون).

قال:

(تعلمت منك ثباتي
وقوة حزمي وحيداً
فكم كنت يوم الطفوف وحيداً
ولم يك أشمخ منك وأنت تدوس عليك الخيول
إننا في زمان يزيدٍ كثير الفروع
وفي كل فرعٍ لنا كربلاء
لُعِنت زماناً خصى العقل فيه

تقود فحول العقول
ما أنت طائفةٌ إنما أُمةٌ للنهوض
لست أبكي فإنك تأبى بكاء الرجال
ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني
يطاف برأسك فوق الرماح)

 

ترى الثورة الشعرية بأوج عظمتها، وبأحر لهيب نارها، تحرق هياكل من عروش بنيت على جرفٍ هارٍ من هياكل وجماجم الأبرياء والأحرار المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة.

يرى مظفر النواب جماجم المظلومين المغيبين جذوراً تحفر الأرض لتثبت الأصل ليشهق الجذع وتنمو ثماره شجرة الحرية التي سقت جذورها دماء الشهداء لتخضر الحرية حية.


الشاعر الثائر في بلدان عشش فيها الظلم، فأتخمت البطون الحاكمة والمتسلطة وجاعت بقدر شبعها شعوب خلق الله الذين لم يكن لهم ذنباً إلا أن أنهم وُلِودوا ليحكمهم جاهل وظالم وجائر. لتدرك الناس، حتى لو في وقتٍ لاحق أن الحق يؤخذ أخذاً، لا يسمى حق من يشحذه بالذل شحذاً.

 

قال: 
(لماذا أدخل القمع إلى القلب
وتستولي الرقابة على صمتي
وأوراقي

وخطواتي

ومتاهاتي
ألّا أملك أن أسكت

أن أنطق

أن أمشي بغير الشارع الرسمي

أن أبكي
ألّا أملك حقا من حقوق النشر والتوزيع للنيران مجاناً
لماذا يضع السيد هذا وطني في جيبه الخلفي؟

من أرثه النفط وتسويقي

ومن ذا راودته نفسه أن يشتريني)

 

يصرخ بوجههم أنه ليس خائف من ظلمهم ومن تهديدهم ووعيدهم وسجونهم.

قال:

(أيها الناس
هذي سفينة حزني

وقد غرق النصف منها قتالاً بما غرقت عائمة
وشراعي البهي شموخي
تطرفت وعياً
وأدرج في كل يوم كأني في قتلهم قائمة
لا أخاف
وكيف يخاف الجهور بطلقته طلقة كاتمة)

 قيل أن زار رئيس وزراء العراق السابق (عادل عبد المهدي) الشاعر مظفر النواب سنة 2007 عندما كان (نائباً لرئيس الجمهورية) وكان ذلك بداية إصابة مظفر النواب بالسرطان فقدم له نائب رئيس الجمهورية هدية رئاسية قدرها (50) الف دولار. فأعتذر مظفر النواب بأدبٍ عن استلامها.

ولما سأل أحد الصحفيين العراقيين الرئيس العراقي الراحل (جلال طلباني) عن سبب عدم تكريم مظفر النواب لحد الآن؟
أجاب الرئيس: تكلمنا معه وأعطيناه استحقاقه من أموال وحقوق فرفضها بأدب قائلاً: (أنا لم أأخذ مالاً من أي رئيس من قبل ولن أأخذها منك الآن).