اوكرانيا .. بعيون محايدة - 7 - / ضياء الناصري

السبت - 28/05/2022 - 10:36

 

مفاعل تشرنوبل النووي

من اهم المحطات واخطرها طيلة ايام عملي الصحفي هي زيارة مفاعل تشرنوبيل النووي، الخطورة تكمن في العدو الاول للبشرية (الإشعاع الذري او الغبار النووي) الذي يختبىء تحت ذرات الرمال أو بين السحاب أو ربما مع قطرات المطر ويلتصق بكل الأجسام الحية والجماد وينتشر في الغابات والأنهر والبحيرات.
منذ دخولي الى اوكرانيا وضعت عدة اهداف صحفية كانت مفاعل تشرنوبل إحدى تلك الأهداف، حصلت على الموافقات الأمنية والصحية بصعوبة فكنت اول صحفي عربي يدخل مفاعل تشرنوبل ومعي الزميل الصحفي والمصور معاذ حامد من فلسطين ، وذلك بعد خروج الجيش الروسي منها والذي احتلها قرابة 36 يوما، حيث دخلها عن طريق حدود بلا روسيا التي تبعد عن المفاعل قرابة 30 كيلو مترا ومنها شق الجيش الروسي طريقه الى العاصمة الاوكرانية كييف التي تبعد عن المفاعل قرابة 130 كيلو مترا، لكن ولحساسية المدينة وما فيها من أسرار وما تحتها من أخطار، ولأن الروس كانوا يعتقدون (أو ربما) أرادوا إقناع العالم أن أوكرانيا عاودت نشاطاتها النووية وتجاربها البايولوجية، ضمن الحرب الاعلامية وإقناع الراي العام كي يقف مع روسيا في معركتها، وأثناء حركة الآليات وحاملات الجنود والمدافع والدبابات وكل أنواع الدعم اللوجستي في مدينة تشرنوبيل ومحيطها وقيام بعض الوحدات بحفر الخنادق والمخابىء والمرابض والتحصينات دق ناقوس الخطر حيث كل هذه العوامل تسببت بتحريك التراب والغبار الساكن منذ 36 عاما بعد انفجار تشرنوبل الشهير عام 1986 وقد تأشر لدى المراصد والمختبرات الخاصة تزايد سريع ونمو مقلق لمعدلات الاشعاعات النووية وتحرك الغبار والرذاذ النووي فتبين تزايد الاشعاعات إلى عشرين ضعف الحالة الطبيعية والساكنة، ولأن سبعة عشر دولة اوروبية وسوفيتيه سابقة لا تنسى رعب السحاب  النووي الذي غطى بلدانها في حينها، كما ان اكثر من مليونين ونصف المليون هم ضحايا ذلك الانفجار العظيم بعضهم يعاني من اثاره حتى الان، لذلك استشاط العالم غضبا وهو يتوسل الى طرفي الحرب ان لا يستفزوا الذرات المشعة او النووية لأن المسئلة اكبر من حرب هنا او صراع هناك، المفاعل رقم 4 والذي تم دفنه وطمره بالاف الاطنان من الأسمنت واغلق لمئة عام تحت الأرض فإنه كالبركان النووي الهائج يكفي من يريد ان يفجر نصف العالم ما عليه إلا أن يعبث بقبته الفضية التي يبلغ ارتفاعها 100 متر حتى يخرج التنين النووي من عرينه فتحل الكارثة التي تقدر قوته 500 ضعف قنبلة هيروشيما وبلغت حرارته 4000 درجة ، المهم ان الروس لم يمكثوا كثيرا لكنهم عندما خرجوا من تشرنوبل اخذوا معهم معدات وحواسيب وادوات بالغة الاهمية تقوم - بحسب خبراء اوكرانيين - برصد الاشعاعات بشكل دقيق ،  مدير مختبر وحدة القياس في مفاعل تشرنوبل السيد نيكولاي فاسليفتش قال لي : (تكنولوجيا المختبر لم تعد قادرة على العمل بعد سرقة اجهزة الكومبيوتر وتقدر الخسائر بستة مليون يورو ونحن بحاجة الى جميع البرامج التي سرقت ونحن ننتظر المساعدة في اعادة عمل هذا المختبر) .
أما (الكسندر مايرميا) مهندس ومدير مختبر الرصد الاشعاعي في مدينة تشرنوبل والذي رافقنا في اماكن الحفر التي قام بها الجيش الروسي فقال لي : (انا اعمل هنا منذ عام 94 والكل يعرف ماذا حدث في تشرنوبيل الكلمة نفسها تعني الاشعاع حيث لم يسمحوا لنا بالتواجد هنا لكن (الغزاة) جاؤا للقتال ولم نحذرهم من البقاء لكي يتعرضوا الى الاشعاع)

 الروس - ربما - لهم كلام اخر لم يكشفوا عنه، لكن آلة الاعلام الروسية تتحدث عن حصول موسكو على وثائق بالغة الأهمية حول مختبرات بايولوجة تقوم بابحاث واختبارات جرثومية لصالح الولايات المتحدة الامريكية ، رواية روسية بقيت دون اثبات حتى الان، وربما تثبت لاحقا.
اجراءات الدخول تطلبت التوقف على بعد اربعين كيلو متر خارج تشرنوبل اصطحبنا معنا دليلة اوكرانية مجازة قالت لنا ان العاملين هنا لا يسمح لهم بالمكوث اكثر من خمسة عشر يوما لكي لا تتشبع اجسامهم بالاشعاعات كما ان المنطقة اصبحت ثكنة عسكرية لا يسمح لاحد الدخول اليها، وكانت تنبهنا من التقاط الصور لبعض الاماكن العسكرية  غ فتح زجاج السيارة في بعض الأماكن، أو النزول في أماكن أخرى كما يمنع التقاط أي شيء أو جسم يتم العثور عليه كي لا يكون حاملا لأجسام مشعة، خصوصا في المدينة التي بقيت مدينة أشباح منذ قرابة ثلاثة عقود ونصف ، غادرنا المدينة بعد أن دونت ملاحظاتي والتقطت الصور وبعد أن مررنا بمحطتين كل واحدة تبعد عن الأخرى حوالي عشرة كيلو مترات تقوم بفحص دقيق يرصد الاشعاعات في اجسامنا وملابسنا وادواتنا وسيارتنا وكل شيء، وغادرنا المدينة التي توقف الزمن فيها وتآكل خشبها وجدران منازلها  فيما الصدأ ما يزال يقضم بحديدها الممهترىء على مر السنين وبقيت معالم المدينة على حالها كالصحف والارشادات والعاب الاطفال وغرف النوم والسيارات وكل شيء بقي على حاله عندما تم اجلاء اكثر من مئة الف مواطن من محيط ثلاثين كيلو متر من المفاعل المتفجر وذلك خلال فترة ايام قليلة في عملية اجلاء وصفت بالاكبر في التاريخ حيث شارك فيها قرابة 600 الف جندي سوفيتي آنذاك ، وكلفت عملية السيطرة على آثار الكارثة والاجلاء وإسكان النازحين قرابة 30 مليار دولار ، رقم كبير في ذلك الزمن على دولة شبه مفلسة واسعار نفط متدنية جدا لدرجة ان رئيس الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت ميخائيل غورباتشوف اعتبر ان خفض سعر النفط مؤامرة سعودية أمريكية تهدف إلى اضعاف الاتحاد السوفيتي ويقال بان حادثة مفاعل تشرنوبل هي القشة التي كسرت ظهر الاتحاد السوفيتي والتي أوصلته الى التفكك والانهيار في العام 1991 بعد سقوط جدار برلين الشهير .
كييف - مايو / 2022
وللحديث تتمة ..