الْرَحْمَةُ ومشتقاتُها وَرَدَ ذِكْرُها في القُرآنِ الكريم (268) مرَّة . ومِنْ اسماءِ الله تعالى ، الرَّحمن والرَّحيم ، والرَّحِم أُشتُقَّ من الرحمة فقد جاءَ في الْحَدِيثِ الْقُدسيِّ الذي خَرَّجَهُ ابنُ حبّانَ في صَحيحِهِ : ( أَنا الرَّحمنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لها اسماً من اسمي فمنْ وَصَلَها وَصَلتُهُ ومَنْ قطعها بَتَتُّهُ ) . والمرادُ بالرَّحِمِ هنا : الصِّلَةُ بينَ الشَّخصِ وَغَيْرِهِ ، ويرادُ بهِ الأقربون .
وَاذا كانت الرَّحْمَةُ مُشْتَقَةً مِنَ الرَّحِم ، فهذا يَدُلُ على قوة المرأةِ صاحبة الرّحم ، فمن خلالِ رحمها تَنْشَأُ العَلاقاتُ والرَّوابطُ النَّسَبِيّةُ . والمرأَةُ لها قدرةٌ وقوةٌ هائِلَةٌ في حملِ الجنينِ داخلَ رحِمِها لتسعة اشهر ، وهذه قدرةٌ هائلَةٌ على التحمل والصبر . والمرأةُ مَصدرُ الرَّحمةَ في عالَمِ الأنسان ، خصوصاً عندما تصير أُمّاً ، والانثى في عالم الحيوان عندما تصبح أُمّاً . فالدّجاجَةُ-على سبيلِ المثال - مخلوقٌ ضعيفٌ ويخاف حتى من الظلام ، ولكنّها حين تكونُ أُمّاً ؛ فانَّ هذا الضعفَ يَتَبَدَلُ الى قُوَّةٍ والجبنُ يتحولُ الى شجاعةٍ هائلةٍ ؛ فتعرِّض نفسَها للموت اذا داهمَ صغارَها خَطَرٌ . الأُمُّ هيَ مَنْبَعُ الرَّحمَةُ في عالَمِ المخلوقاتِ .
وهذهِ الرَّحْمَةُ النابِعَةُ منْ رَحِمِ الأُمِّ لها دوائرُ مُتَعَدِّدَةٌ ، الدائرةُ الاولى : هي دائرةُ الأرحامِ والاقاربِ ، فيتراحمون فيما بينهم . الأُسرةُ الواحدَةُ يرحمُ بعضُها بعضاُ ، وكذلك الاقاربُ فيما بينهم . يقول اللهُ تعالى :(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ). الانفال: الاية:(75). أَو قولُهُ تعالى :(قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). البقرة: الاية:215 . ولكن لايجوزُ لنا انْ نُوقِفَ الرحمةَ على هذهِ الدائرةِ ونحصرها فيها ، ولانتجاوزها الى دائرةٍ أُخرى . التَّشَبُثُ في الدائرةِ الرَّحميَّةِ القَريبَةِ وعدم القُدرةِ على تجاوزها ، ليستْ سمةً انسانِيَّةً ، بل هي سِمَةٌ أَلصقُ بالحيوان لانَّها سَجِيَّةٌ وغَريزَةٌ عنده ؛ أمّا الانسانُ فلديهُ القدرةُ على الامتدادِ والتَّجاوُزِ . واهم تجليّات دائرة الرحمة القريبة هي القبليّة ، القبيلَةُ مُكّوَّنٌ اجتماعيٌّ لامشكلَةَ فيه ، ولكنَّ المُشْكِلَةَ في التشبثِ بهِ وعدم تجاوزهِ الى دائرةٍ رحميّةٍ اكبر .
ودوائرُ الرَّحمةِ هذهِ تتكاملُ ولاتتعارضُ فيما بينها .
النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّم هو رحمةٌ للعالمين ، ولم يكن رحمةً لقبيلته واقربائه وقومهِ فقط ، بل هو رحمة لكل العالمين وليس لعالم الانسانِ فحسب .
الله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). الانبياء: الاية: (107).
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ).الشعراء: الاية:(214).
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).الفرقان: الاية: (1) .
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ). الانعام: الاية:19. يعني ان انذار الرسول لم يكن محصوراً بقومه وقت الانذار بل هو شاملٌ لكل من يبلغهُ ويصلُهُ هذا الانذار.
(هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).ابراهيم: الاية:52.
هذهِ الانذاراتُ المختلفة للاقربين ولأُمِّ القُرى وللناسِ جميعاً وللعالَمين ، انما هي دوائرُ متكاملةٌ للانذار يكمّلُ بعضُها بعضاً ، ولايجوزُ أنْ تقفَ عندَ دائرةٍ معينَّةٍ ، وانما تتجاوزها الى دائرةٍ ارحب واكثر شموليّةً حتى نصل الى الرَّحمة الكونية لكل عوالم هذا الوجود ، والتي بعث نبيُّ الرَّحمةِ بها ليرحم الحجرَ والبشرَ والنباتَ وكلَّ عوالمِ هذا الوجود .
حاجَتُنا الى الرَّحمةِ اليوم
--------------------
عالمُنا -اليومَ- تسُودُهُ القَسْوَةُ والمظالمُ والمجازرُ وانتهاك حقوق الانسان والتجاوز على البيئة ، ومظاهر الاستعمار ، واحتلال البُلدانِ والاستغلال وسيطرة الاقوياء على الضعفاء ... كلُّ هذه مظاهر لغيابِ الرَّحمةِ من حياةِ الانسان . ماأحوجَنا الى قيم الرَّحمَةِ والتسامُحِ .