قد يتصور البعض أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا, كانت مفاجئة وغير متوقعة تماما, فهي حرب بين دولتين أوربيتين إحداهما روسيا, وهي دولة نووية وكانت أحد قطبي العالم حتى وقت قريب, والأخرى تكاد أن تكون محمية, أعادت أمريكا رسم أوضاعها, عن طريق إنتخابات كانت موجهة بشكل واضح.. كما أن العالم لم يعد يتقبل الحروب, ونتائجها الإقتصادية والإنسانية الباهظة, بالتالي فلا يمكن أن تحصل حرب!
من الواضح أن الرأي السابق, قد يكون مقبولا, إن لم نكن نتابع ما كان يجري, من تنافس سياسي وإقتصادي شديد بين دول عدة, منها روسيا والصين وألمانيا وفرنسا واليابان مع أمريكا.. ولم تكن لنا معرفة بالتحليلات الإقتصادية التي تشير أن أمريكا وقريبا جدا, قد لا تبقى هي الإقتصاد الأكبر والأكثر تأثيرا في العالم.. ولم نكن قد فهمنا واطلعنا على التحولات الإقتصادية والسياسية والعسكرية, التي حصلت في روسيا والصين, خلال العقدين الماضيين..
كما أن هناك أوضاعا جديدة تكونت في العالم, فأوربا بدأت تحاول أن تخرج من سطوة النفوذ الأمريكي, وتنأى بنفسها عن دفع ثمن رغبات أمريكا, أو مشاركتها تكاليف حروبها التي تكون نتائجها, نفوذا وقوة لأمريكا ولا تنتفع أوربا منها شيئا.. والصين باتت التهديد الأكبر لأمريكا إقتصاديا, وأمن إسرائيل لم يعد مهددا بشكل حقيقي, بعد توقيع إتفاقيات السلام المعلنة والسرية منها, مع دول كانت هي من تدفع المال, بشكل يؤثر في وضع قضية فلسطين وشعبها وأغلب منظماتها الجهادية, ناهيك عن أثار وباء كورونا الإقتصادية على العالم كله..
من جانبها أمريكا مرهقة جدا إقتصاديا, وتشعر بالضغط المتزايد عليها وعلى أسواقها, من قبل الصين وحتى من قبل أوربا حليفتها المفترضة, وما سببته مرحلة ترامب من خسارات إستراتيجية لها, فكانت بحاجة لحرب تنفعها في تصدير أزماتها, وتستغلها في تمرير ما تريد تمريره من سياسات, وربما تعيد لها شيئا مما فقدته من موارد وأسواق وفرص عمل, وسلاح يباع ونفوذ يستعاد..
مخطئ من يظن أن هناك دافعا ومحركا لكل ما يجري في العالم غير الإقتصاد والمال.. وتبعا لذلك فان ما يحرك أمريكا الأن هو تخوفها وقلقها على مكانتها, كمتسيد ومتحكم بالوضع الإقتصادي العالمي, وبكل ما يرتبط به من قضايا, وهو تقريبا كل شي في الحياة.. فكانت بأمس الحاجة "لإختلاق" عدو, بل ولا مانع من أن يكون هناك عدوان, فوجود هؤلاء ضروري لتحريك إقتصاد أمريكا وعجلته, وجلب الأموال وإشغال المجتمع والناخبين, وتمرير مختلف القضايا والأهداف والأجندات خلال فترات الحرب..وكذلك ضروري جدا لحلب المال من الحليف قبل العدو, ودفع دول أخرى لتسد محلها وتنشغل بخصومها عنها, في إنتظار النتائج وتسعى كعادتها لتجييرها لصالحها.
من النافع لأمريكا أيضا أن تعيد تفعيل " الحرب الباردة" ضد روسيا لكن بطريقة تضمن أن تكون نتائجها لصالحها, وتبعاتها ومسؤولياتها وإلتزاماتها وأثمانها الإقتصادية والإنسانية على غيرها, ولا يهم إن كان هذا الغير حليفا أو عدوا, فلا فرق عندها إن تعلق الأمر بمصالحها.. فكانت أن دفعت أوكرانيا لتكون أداة التحرش بروسيا وأمنها الإستراتيجي, ومن يقابل روسيا هي دول الإتحاد الأوربي, وبذا تضرب عصفورين بحجر واحد, فقد أغرقت روسيا في مستنقع الحرب الباردة, وشغلتها عن منافسة أمريكا على المكانة العالمية, كقطب ثاني يوازيها, وشغلت أوربا عن منافستها إقتصاديا, وأعادتها إلى وضع الحليف المحتاج لدعم أمريكا, بعد أن كادت أن تصبح ندا مقابلا ومعارضا لكثير من مواقفها وسياساتها..
وبهذا ستتفرغ أمريكا لعدوها الحقيقي وهو التنين الإقتصادي القادم من أسيا.. الصين صارت قلقا إقتصاديا حقيقيا, بعد أن كانت قلقا سياسيا أولا ومشكلة إقتصادية ثانوية متحكم بها.. ومع شيخوخة الوضع الإقتصادي الأمريكي, صارت الصين تهديدا مباشرا لمكانة أمريكا كقطب أحد يتحكم بكل شيء في العالم, عن طريق قوته الإقتصادية ودولاره اللتان تدعمهما قوة عسكرية, وقانون دولي تطوعه كيفما تشاء, تبعا لمصالحها..
من الواضح أن تلك الحرب, ستمتد تأثيراتها لكل دول العالم, فالدولتين المتحاربتين لهما حصة كبيرة, في الإنتاج الغذائي العالمي, كذلك في كثير من المواد الخام الأولية, وكذلك سوق الطاقة, لكن هذا التأثير سيكون أكثر وأشد وطأة على الدول الصغيرة والضعيفة, فالكبار ممن أشعل تلك الحرب, وجلس يتدفأ بنارها, إما كان قد أستعد لها, أو لديه من القدرات والإحتياطات ما يقيه أثارها الشديدة, ولا تهمه التأثيرات الصغيرة أو الجانبية..
بعد كل ما تقدم, أين موقعنا نحن العرب في كل تلك القصة؟ وأين سيكون العراق وسط هذه الدوامة العالمية؟, وما خبرتنا نحن في كل ذلك؟
من الواضح أن الوضع العربي الحالي, هو أضعف من أن يكون لهم دور أو بصمة في صنع أو التأثير بتلك الأحداث, إلا بمقدار ما يطلبه الكبار, من زيادة في كميات إنتاج النفط, لإعادة أسعاره, لما يريده هؤلاء, وبطريقة قد تسلب العرب من كل منافعهم من تلك الزيادات في الأسعار, وتحرمهم من فرصة كونهم مؤثرين في الأوضاع العالمية, بحكم كونهم المنتجين الأكبر للطاقة في العالم, ومن يملك ثروات مالية, يمكنها أن تغير كثيرا في المعادلات..
يزيد وضع العرب سوءا إنشغال دوله الأكبر, بوضعها وظروفها الخاصة, فلازالت السعودية غارقة في مستنقع اليمن, بإنتظار ما سينتجه حوارها مع إيران, وما يتعلق بها في الإتفاق النووي الإيراني, فيما تنكفئ مصر لمعاجلة مشاكلها الإقتصادية والداخلية الخانقة, وبقية دوله كلها تتبع طريق السلامة, وتحاول أن تنجوا من أثار تلك الحرب.. فما ذا عن العراق!
نعيش في العراق وضعا شائكا داخليا وخارجيا, فبعد إنتخابات جاءت بنتائج غير متوقعة, لازال الإنقسام السياسي والتنافس بهدف الكسر, هو سيد الموقف وطريقة تعامل الزعامات, وكأنها لعبة في مدرسة لأولاد صغار, لا يفقهون شيئا أسمه مصالح عليا أو قضايا إستراتيجية, وكثير منهم لازال يظن أن داعمه الخارجي, سيبقى خلفه إلى الأبد, متناسيا أن هؤلاء إنما يدعمون تبعا لمصالحهم, وسيتبدل الموقف بتبدل المصالح..
قابل ذلك تأثيرات الملف النووي الإيراني, والواقع العملي الذي فرضته أمريكا وإيران علينا, عندما جعلونا ساحة لمعاركهم السياسية والأمنية والإقتصادية وحتى العسكرية.. فلا حسم بدون أن يناقش ملفنا في إطار هذا الإتفاق, ومن يقول غير ذلك, فهو واهم أو حالم, وعليه الإستيقاظ والتعامل مع واقع موجود ومفروض..
تأثيرات الحرب الأوكرانية على المواطن العادي, كانت واضحة وشديدة الوطأة, وفضحت فشل حكوميا واضحا في الإستعداد, أو القدرة على التعامل مع مثل هكذا مواقف, وأكدت بشكل لا لبس فيه عدم وجود سياسية إقتصادية صحيحة, وفقدان لأي رؤية إستراتيجية نحو بناء دولة وبلد تقوده مؤسسات, فأكتفت بحلول ترقيعية لن يتعدى أثرها بضعة أيام.
سياسيا بقي الساسة العرب تتنازعهم المحاور, فانقسموا ومنهم ساستنا بين من يؤيد روسيا ويدافع عنها, ومن يهاجمها ويشيطنها ويدعم أوكرانيا, دون فهم حقيقية أو وعي لأسبب الدعم أو المهاجمة, وإن كانت هناك مصلحة عربية أو عراقية, في هذا الموقف أو ذاك, ولم يتعلموا من دروس الماضي, حين تخلت تلك الدول الكبيرة, عن عملائها بمجرد إنتهاء مصلحتها معهم, وإحتراقهم كورقتهم..
الطريف أن هذا الإنقسام أمتد للمجتمع العربي, بين من يدعم روسيا وحربها, حبا بإيران وكونها حليفة لها وله, وبين من يهاجم روسيا لأنه يكره إيران ومعجب بالنموذج الأمريكي.. لكن هناك طرف صغير ثالث, لا علاقة له بكل ذلك وهمه الوحيد, هو إنتظار وصول اللاجئات الأوكرانيات.. ليظهر إنسانيته لهن!