بألـمٍ وحزن بالغيّن، كما بلوعة وحسرة خانقتيّن، ننعى المترجم البارع، والكاتب والاعلامي الباهر، والشخصية الثقافية والاجتماعية اللامعة: عبد الأله النعيمي، وذلك بمغتربه في لندن، صبيحة السبت 2019.6.22 بعد عارض صحي لم يمهله طويلا..
والفقيد العزيز مؤسسٌ مشارك لدار "بابيلون" للأعلام، ورئيس تحرير اصداراتتها للفترة (1991-1996 ) كما ساهم وبحيوية في اطلاق مركز"الجواهري" الثقافي، وفي نشاطاته منذ عام 2002 ولحين رحيله المؤسي.
وفي الوقت الذي نعزي ونواسي عائلته الكريمة، وأهله ومحبيه داخل العراق وخارجه، نعيد في التالي - تعبيراَ عن بعض وفاء- التوثيق الذي كتبناه قبل اشهر قليلة، ويشمل محطاتٍ عجول وخلاصات سريعة عن سيرة الفقيد الجليل، الشخصية، وعن عطاءه الثقافي والوطني والانساني، الحافل .. واعدين بأن نوثق لاحقاً تفاصيل أكثر، لعراقي دؤزب، شغل موقعه الريادي، وزاد، في المجالين الابدعي والأعلامي لعقود عديدة:
*عبد الاله النعيمي ... عراقيّ من هذا الزمان*
... وصاحبنا هذه المرة، في هذه التوثيقات الموجزة، بغدادي عريق، ومن منطقة (الفضل) تحديداً، هو عبد الاله النعيمي، الحامل بكلوريوس الفيزياء، والتارك ذلك الاختصاص ليمتهن الاعلام والكتابة، والترجمة بشكل رئيس، وببراعة استثنائية، بحسب كل متابع للشأن الثقافي العربي، والعراقي على الأقل، بحسب ما نزعم..
والرجل رفض التقييد، والتقليد، ولذلك لم يتحزب، ولو أنه راح "ثوريا" معطاءً لليسار عموماً، وللحزب الشيوعي بشكل خاص، ولربما أكثر بكثير مما لو كان منظماُ، او منتظماً في ذلك الحزب العريق، أو غيره وأنا هنا شاهد عيان، في بغداد اولا، ثم في الخارج تاليا..
قلت شاهد عيان، واسردُ ان عبد الاله كان حيويا في صحيفة (طريق الشعب) البغدادية الشيوعية العلنية خلال السبعينات، محرراً ومترجماً في صفحة الشؤون العربية والدولية، وكنت في الصحيفة ذاتها معنيا بمتابعة عدد من الصفحات المتخصصة، وهناك كانت بداية تعارفنا، وحتى أغتربنا/ هربنا من بلاد (نا) بعد اشتداد غدرة قيادة البعث اللئيمة، الجديدة ، آواخر السبعينات الماضية، ففــرّ الرجل مع جمهرة واسعة من المثقفين العراقيين لتتلقفهُ تشكيلات الحزب الشيوعي العراقي الاعلامية، في لبنان، وخاصة ضمن حدود جمهورية (الفاكهاني) الفلسطينية وسط بيروت، لنحو عام، ومنها جاء الى براغ التي كنت وصلتها مكلفاً بعدد من المهام الحزبية والديمقراطية العراقية المعارضة..
في براغ، عمل عبد الاله، منذ اواخر السبعينات، وحتى مطالع التسعينات الماضية في القسم العربي بمجلة قضايا السلم والاشتراكية، ومن بعدها في مقر سكرتارية اتحاد النقابات العالمي، مترجما أول، ومحررا.. ولكنه كان عمليا مدخل الحزب الشيوعي العراقي الى العالم، مترجما ومحررا الى الانجليزية، وبيراعٍ أنيق، جميع البيانات والاصدارات المهمة، وخلاصات الاجتماعات والمواقف الصادرة عن الحزب، ولسنوات عديدة، فضلا عن اصدارات المنظمات الديمقراطية العراقية (الطلاب – الشبيبة ... وغيرها). ولكم جاءت في مكانها تسمية "الجندي المجهول" التي أطلقت على الرجل خلال مشاركته الخريف الماضي بمعرض (المدى) الدولي للكتاب في دورته الاخيرة بأربيل، في توكيد واضح لأبتعاده عن الأضواء، بل وبغضها، تاركها للذين يحتاجونها بهرجةً وأدعاء، وما أكثرهم في عالمنا اليــوم.. ولعلّ صمته الشهير جعل من كلماته ومداخلاته أبلغ وأجمل..
وفي مستقرنا الجديد ببراغ - الذي كنا نحلم ألّا يكون طويلا، واذ به يمتد لعقود وعقود – توثقت العلاقات مع عبد الاله شيئا فشيئا، لتصبح شبه يومية، ولنطلق معاً عام 1990 ولغاية رحيله مضطرا الى لندن عام 1996 مؤسسة "بابيلون" للثقافة والاعلام، تلك المغامرة المستمرة الى اليوم .. ثم بدأت الجولة الثانية من علاقاتنا المباشرة، عندما عاد الرجل الى براغ من جديد محرراً واعلاميا في (أذاعة العراق الحـر) منذ اوائل الالفية الثانية، وحتى عام 2015 حين عاد ليقيم في لندن، وليستمر في عطاءاته..
ولبراغ موقع اكثر من مميّز لدى عبد الاله، فقد تزوج فيها من (يسار صالح دكله) أواسط الثمانينات وأنجبا وربيّا في ربوعها ولديّهما: فارس وعمر .. كما نشط في مختلف الفعاليات والاطر الثقافية والاجتماعية والعامة، ومن بينها رئاسته للجنة فرع رابطة المثقفين العراقيين، أواخر الثمانينات الماضية. وقد بقيت براغ، المدينة والناس، تشهد له علاقاته الحميمة مع الجميع، ونكتفي بشهادة هنا لها اكثر من مدلول وهي علاقته مع الجواهري الكبير الذي اطلق تسمية "الامير" على عبد الاله تيمناً بالأمير عبد الاله، ولي عرش العراق، في العهد الملكي – العميل برأي البعضٍ، والجميل بحسب بعض آخر!. وكم له حكايات و"قفصات" مع الشاعر الخالد، عسى ان يكتب عنها بنفسه، فيوثق لها وحولها..
لقد ترافقت مع عبد الاله النعيمي، وفي الثمانينات الماضية على وجه التحديد، في زياراتٍ ووفود ومهام طلابية وشيابية وسياسية لعواصم ومدن عديدة، ومن بينها مثلاً لا حصراً : فايمر وبرلين الالمانيتين، وصوفيا وموسكو الاشتراكيتين السابقتين، ودمشق وعدن العربيتين، وهكذا في باريس ولندن الرأسماليتين... وفي جميع تلك السفرات تكشفت أكثر وأكثر شخصية الرجل، وميزاتها في التواضع والهدوء، والثقافة المتنوعة، غير "المؤدلجة" .. كما انه كان – وأظنه الى اليوم- طبيعياً في شؤون الحياة الاخرى محبا للجمال، ومتعلقاته، الروحانية والمادية، ولا نزيد فللمجالس امانات كما نكرر دائما !.
وإذا ما كان قد فاتني شئ في الحديث عن بعض محطات الرجل، وسماته، وعطاءاته، فلا يجوز أن تفوت الاشارة الى ان له على ما نوثق نحو ثلاثين كتابا وبترجمة مشهود لها، لأمهات الدراسات والكتب والبحوث السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، يطول الحديث عنها. ولكن ها هي - مثلاً - مكتبة مؤسسة (بابيلون) في براغ تضم الكثير من تلك الاصدارات ومنها: "شيعة العراق، نهاية الحرب الباردة والعالم الثالث" و" 10 ساعات هزّت العالم" و" الإثنية والدولة الأكراد في العراق وإيران وتركيا" و" التاريخ الاقتصادي لعصر الامبريالية" و" الامة و الدين في الشرق الاوسط،" ومؤلف أدبيّ بعنوان "بجعات بريّة"..
أخيرا، أقول ان ثمة مثلاً، يتداوله العراقيون بأن الانسان يُعـرف أكثر، بمعرفة من هم أصدقاؤه، وذلك ما ينطبق - بحسب ما أدعي- على عبد الاله النعيمي، وتلكم هي معروفة شبكة علاقاته وصداقاته ومحبيه، شعراء وكتابا وفنانين ومثقفين وسياسيين، وشخصيات عامة، وغيرهم كثير، والاشارة لذلك فيه تباهٍ لي ايضا!! .. (كتب ونشر التوثيق اعلاه في كانون الثاني 2019).