وبعد ما ألقينا الأضواء على السيرة العلوية الإنسانية عن معاملة الأسرى والتعامل الإنساني لدى خليفة رسول ووصيه. نعود ونكمل المسيرة المحمدية في التعامل الإنساني السامي وبكل معانيه العظيمة والخالدة عبر التاريخ والتي لم يقم بها أي من الأولين والأخرين وعبر امتداد التاريخ الى نبينا الرحمة محمد(ص).
أسرى مكة (الطلقاء)
يعتبر فتح مكة من أعظم المواقف السامية التي تسجل الى نبينا الأكرم محمد(ص)، وخصوصاً بعد أن يتم استقراء التاريخ المظلم لقريش وكفارها مع الرسول الأعظم محمد(ص)، فقد جاء فتح مكة تتويج لرسالة محمد(ص)والذي وعد الله سبحانه وتعالى نبيه وحبيبه بهذا الفتح المبين، ليدان كل من في فيها ولتصبح بيده وبالتالي له حق التصرف كما يشاء، فما فعل؟ فهل قام بفعل القادة المنتصرين والملوك والأباطرة في اذلال المنهزمين وجعلهم رهائن بيده، ام فعل غير ذلك؟
لقد قام بفعل لم يقدم عليه اي شخص عبر التاريخ ولقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: { يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعَظُّمَها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب }، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(1).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟"
قالوا: خيرً، أَخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.
قال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(2).
ومن هذا الموقف الإنساني العظيم من لفظ الطلقاء ان هؤلاء هم كانوا في حكم الأسرى، وان النبي قد منَّ عليهم بإطلاق سراحهم ولم يمسهم بأي سوء أو أذى بل على العكس أكرمهم وخصهم بمنزلة. وهذا يدل على مدى سمو وأخلاق نبي الرحمة محمد(ص)والذي يفند كل الروايات الباطلة والمنحرفة عن خلق نبينا العظيم، والتي تصفه بالوحشية والغلظة والعنف(حاش لله)بل نبي رحيم والذي بعث رحمة للعالمين وذو خلق عظيم، و أدبه ربه فأحسن تأديبه.
ثمامة بن أثال الصحابي
هو أول معتمر في الإسلام وأول مسلمٍ يدخل مكة ملبِّياً، وهو أول من فرض الحصار الاقتصادي في الإسلام نصرة لرسول الله. كان أمير بني حنيفة، وأحد أشراف بكر بن وائل، وسيد من ساداتهم(3).
قصة إسلامه
كانت سرية محمد بن مسلمة هي أول عمل عسكري بعد غزوة الأحزاب وقريظة، وقد تحركت هذه السرية [ في المحرم من العام السادس للهجرة] في مهمة عسكرية ضد بني القرطاء في أرض نجد، وفي طريق عودة السرية، تم أسر ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، والصحابة لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فلما خرج إليه الرسول قال : { أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ ؟ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ }(4).
ورجع الرسول إلى أهله، فقال لهم : { اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ.. }وقد أمر النبي بِلِقْحَتِهِ – أي ناقته - أَنْ يشرب ثمامة من حليبها. ولازال الرسول يتودد إليه ويتردد عليه، ويدعوه إلى الإسلام، ثم أمر أصحابه بفك أسر ثمامة. فذهب ثمامة من تلقاء نفسه إلى نخل قريب من المسجد النبوي – ولم يذهب إلى أهله – ومن تلقاء نفسه – أيضًا -، اغتسل غُسل المسلمين، ثم قدم إلى المسجد فنطق بالشهادتين، ثم علَّمه الرسول صفة العمرة على المنهج الإسلامي، ولقنه التلبية(5).
أول معتمر في الإسلام
استأذن ثمامة الرسول أن يؤدي العمرة فكان أول مسلمٍ على ظهر الأرض يدخل مكة ملبِّياً، وكانت لا تزال بيد الكفار، ولا يزال فيها الأصنام. حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي، قائلاً: { لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمـد، والنعمة, لك والملك، لا شريك لك، لا شريك لك }سمعت قريشٌ صوتَ التلبية، فهبَّت الجمع مستلين سيوفهم مِن أغمادها، واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها، ولما أقبل القوم على ثمامة، رفع صوته بالتلبية رفع العيار، فهمَّ فتىً من فتيان قريش أن يرديه بسهمٍ، فأخذوا على يديه، وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال، ملك اليمامة، فقتْلُه يشعل علينا نارَ حربٍ كبيرةٍ، أخذوا على يديه، ومنعوه أن يناله بسهم، وقال الناصح: والله إن أصبتموه بسوءٍ لقطع قومه عنا الميرة، وأماتونا جوعاً، ثم أقبل القوم على ثمامة، بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها، وقالوا: ما بك يا ثمامة، أصَبَوْتَ؟ يعني أسلمت، وتركتَ دينك ودين آبائك، قال: ما صبوت، ولكني اتبعتُ خير دينٍ، اتبعت دين محمد(6).
الحصار الاقتصادي على مكة
عندما انتهى ثمامه بن اثال من عمرته، قال لسادات قريش ( أقسم برب هذا البيت إنه لايصلكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا دين محمد عن آخركم) و عاد إلى بلاده فأمر قومه بأن يحبسوا الميرة عن قريش، فصدعوا بأمره واستجابوا له، مما جعل الأسعار ترتفع في مكة، وتفشى الجوع ويشتد الكرب حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم الهلاك. عند ذلك كتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: إن عهدنا بك تصل الرحم وتحض على ذلك.. وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا. فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث بما نحتاج إليه فافعل. فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها(7).
ونتسائل بدورنا هل كل ما ذكرناه فيه ذرة من الفظاظة والقسوة(حاش لله)عند نبي الرحمة محمد(ص) ؟ والذي هو مبعوث الرحمة أرسله الله سبحانه رحمة للعالمين. والذي سنذكر ما يعزز ما نقوله ويفند كل الأباطيل التي تحاك ضد نبي الإنسانية والخير الرسول الأعظم محمد(ص) والتي سنوردها في أجزائنا القادمة أن شاء الله إن كان لنا في العمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ [الحجرات: 13].
2 ـ ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، ابن القيم: زاد المعاد 3 / 356، السهيلي: الروض الأنف 4/170، ابن كثير: السيرة النبوية 3/570. وقال الألباني: نقله الحافظ ابن كثير في "البداية و النهاية" ساكتًا عليه، وهذا سند ضعيف مرسل.
3 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، ابن عبدالبر.
4 ـ ابن هشام 2/638.
5 ـ صحيح: أخرجه أحمد "2/ 453"، والبخاري "462" و"469" و"2422" و"2423" و"4372"، ومسلم "1764"، وأبو داود "2679"، والنسائي "1/ 109-110"، وابن خزيمة "252"، والبيهقي في "السنن "1/ 171" وفي "دلائل النبوة" "4/ 78" من طرق عن الليث، به.
6 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري » كتاب المغازي » باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال. رقم الحديث 4114. رواه البخاري:4372، ومسلم: 4688، وأحمد:9832].
7 ـ مأخوذة من حاشية كتاب الكافي - الشيخ الكليني - ج ٨ - الصفحة ٢٩٩. منشورات المكتبة الشيعية. ومأخوذة من مقال في ويكبيديا الموسوعة الحرة. باب نقاش. الرابط :
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%85%D8%A9_%D8%A8%D9%86_%D8%A3%D8%AB%D8%A7%D9%84