خرج من ظلمة الرَّحم لا يرى النور ثلاثة أيام .. فالسُّرور يلوح على وجهه الأبيض كقرص الشمس ، ومحياه يطفح بالبِشر.
احتضنه أبوه فلفَّه بشعره الأسود الكثيف, ثم أذَّن بصوته الرخيم في أُذنه اليمنى الصغيرة ليفتح باب فؤاده لما هو آتٍ !
فتح عينيه السوداوين في اليوم الرابع , نظر لأَبيه مبتسما , فعانقه وحمله للنبي .
بعد أن ارتعشت شفتاه بالنطق لأول مرة, رباه والده في مدينة الرسول , يتلو عليه الآيات ليحفظها, ويتصدق من حنطته أمامه .
أشتد عوده وأينعت ثماره بعد وفاة حبيب الله , فغدا فتى كان جل همه قراءة القرآن الكريم بلغة قريش .
سأل أباه : من وهبه الله قلبا عقولا ولسانا سؤولا؟
فأجابه : نفس النبي ووصيه .
أردف .. : أيعلم ما نزلت آية إلا وقد علم فيما نزلت وأين نزلت، أبليل نزلت أم بنهار نزلت، في سهل أو جبل ؟
الأَب يتنفس الصعداء ويطرق مسامع ولده : نعم يا بُنَي .
استأذن والده, ليتوارى عن عينه, فسار إلى علي بن أبي طالب .
انحنى يُقبِّلُ كفَّ أمير المؤمنين , استقبله الإمام وطلب منه أن يقرأ , فقرأ عليه , فأمره بما سمع عن النبي ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)).
جثى على ركبته بين يدي يعسوب الدين , وأُذناه واعيتان , ليسمع كلام إمامه وينفذ خطابه : سِرْ إلى مسجد الرملة الحمراء , وعلم القراءة هناك , ثم أخبر تلامذتك : إّنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنّهم كانوا إذا تعلّموا عشرَ آيات لم يجاوزوهنّ إلى العَشر الأُخَر حتى يعلموا ما فيهنّ، فكنّا نتعلّم القرآن والعمل به، وإنّه سَيَرِثُ القرآنَ بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا !
عاد يقبل يدي مولى الموحدين وشد رحاله .
وصل بعد عدة شهور فشم نسيم هواء الكوفة العذب , ووقف يسأل عمال سوقها عن دار للبيع , فاشترى .
قبل بزوغ شمس نهار اليوم التالي دق أجراس مسمع المصلين في مسجدها بصوته الشجي تلاوة عطرة من كتاب الله حتى بدأت حلقة الدرس مذ تلك اللحظة بعد صلاة الفجر .
فأخبرهم خطاب الإمام دون الاشارة إليه !
مضت بضع سنين فتولى خلافة المسلمين أمير المؤمنين لينصبه معلما وأول شيخ قراء المسجد .
استشهد الخليفة , فبات سريع الدمعة , فهلَّ الماء يغطي عيونه ؟
استمر أربعين عاما يُقرؤه الناس ويعلمه ببصيرة قلبه وعتمة الرؤيا . ويصلي جماعة و يُحْمَل في الطين في اليوم المَطير حتى قربت منيته , فدخل عليه تلميذه وخاطبه يرحمك الله لو تحوّلت إلى فراشك، استدار إليه ليملأ مسامعه بحديث منسوب للنبي لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاّه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهمّ اغْفر له اللهمّ ارْحمه، فأريد أن أموت وأنا في المسجد.
لكن لا أعلم ما غشي عينيه !