لا يختلف أثنان من أن التاريخ الاسلامي لم ينصف الحقيقة في غالبيته حيث كتب بحروف وأقلام مأجورة للأنظمة الطاغية بقيادة أبناء الطلقاء، ما أدى الى تأثر أصحاب النفوس الضعيفة والوضيعة من كلا الطرفين الخاصة والعامة، وخير دليل على ذلك هو ما ينقل عن الامام الحسن بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهما السلام رغم مرور أربعة عشر قرناً على مجريات الأحداث الأليمة التي عاشها بعد أن تسلم مقاليد الأمامة والخلافة في 21 رمضان 40 للهجرة بعد استشهاد والده الامام علي (ع) على يد غدر الخوارج وبنو أمية في محراب مسجد الكوفة، ومبايعة أكثر من أربعين ألف مسلم له.
لكن رفض معاوية أبن هند آكلة الأكباد لذلك شق عصا المسلمين وصفوفهم ودفع الى عدة مؤامرات لاغتيال الامام الحسن المجتبى (ع) والذي نعيش هذه الأيام ذكرى ولادته المباركة (15 رمضان سنة 3 للهجرة في المدينة المنورة).. ثم الأحداث التي تلت بعد ذلك حيث كان لسلطان الشام الديكتاتوري قدرة عسكرية كبيرة وجيش جرار لبث الإشاعات في صفوف الأمة أستهدفت ذوي النفوس الضعيفة حتى أقرب المقربين للأمام (ع) وممن بايعه بالولاية السماوية كما هو الحال مع أخية الأمام الحسين (ع) وثلاثين ألف رسالة من أهل الكوفة، أن أقدم إلينا فسيوفنا معك.. لينتهي المطاف بفاجعة عاشوراء على أرض الرمضاء بكربلاء عام 61 للهجرة.
ما أن سمع غالبية زعماء قبائل الكوفة برنين دراهم معاوية الطليق ووعوده السلطوية حتى بادروا الى إرسالهم رسائل بأنهم مستعدون أن يسلموه الامام الحسن بن علي (ع) أو يقتلوه حسب رغبته، ومن ثم غدر وخيانة قائد الجيش "عبيد الله بن العباس" الذي التحق بركب "معاوية" لقاء رشوة تلقاها منه رغم أن الأخير كان قد قتل أثنين من أبنائه.
فأرسل معاوية رسائل الكوفيين الى الامام المجتبى (ع)، واقترح عليه الصلح، فقَبِل الامام "الصلح" مع طاغية الشام على مضض حقناً لدماء المسلمين ودفعاً للفرقة والنفاق والتشتت والانقسام واندحار الرسالة النبوية الشريفة، وسلّم الحكم إليه على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولا يعيّن خلفا لنفسه، ويضمن الأمان للناس وخاصة شيعة الامام علي (ع). وما أن نكر معاوية كوالده أبو سفيان العهد والميثاق وأعلن رفضه للشروط التي وقع عليها حتى ثارت ثائرة اؤلئك الذين خذلوا الامام الحسن (ع) و أجبروه على التوقيع وباتوا ينعتوه بـ"مذل المؤمنين".
روى البخاري في "صحيحه" (حديث رقم/2704) عَنْ أَبِي مُوسَى قال: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ- وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)، وكل ذلك وجهلة الأمة الخاصة قبل العامة رموه ببغيهم، مما جرح قلبه الشريف عليه السلام والذي لا يزال ينزف حتى يومنا هذا.
فها هو الامام الحسن بن علي يستعرض أسباب قبوله لمثل هذا الميثاق مع أبن الطلقاء، ولكن المقال لا يتسع لنقلها جميعا حيث اخترنا لكم اثنين مما قاله عليه السلام لخيرة أصحابه في المدينة المنورة ما يشير الى المعاناة الكبيرة التي كان يعانيها (ع) من شيعته قبل أعدائه:-
1- أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء يزعمون انّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي (الاحتجاج : ج2 ، ص20).
2- يا أبا سعيد علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (ص) لبني ضمرة و... أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفروا بالتأويل (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ، ص15؛ وفي تراه في علل الشرائع ج 1 ص 200 و212).
كان الامام الحسن المجتبى عليه السلام يحمل على عاتقه مسؤولية مهمة وصعبة جداً، ربما أصعب من مسؤولية الامام الحسين عليه السلام، وهي مسؤولية إعداد الأمة لوقوفها على حقيقة أبناء الطلقاء وإصرارهم على العودة الى حكم القبلية الجاهلية بعيداً عن مساواة الاسلام وعدالته ووحدانيته، ثم غدر أقرب المقربين له ومن خواص قادته وعسكره وعموم شيعته، ما دفعه الى قبول الصلح مع أبن هند..
فكانت مسؤولية الإعداد أصعب من تفجير النهضة والقيام المسلح، لأن الشخص الذي يريد بناء وتربية جيل على المفاهيم الصحيحة، فمن دون شك وترديد لابد من أن يلاقي صعوبات عديدة، وربما يهان، كما أنه يحتاج الى برنامج منظم وزمان طويل ومخطط دقيق على المدى البعيد، والكوادر الصالحة والتقية والاحتياط من أجل المحافظة على هذا الجيل في حال الإعداد والبناء، وعوامل البقاء خلال عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر.
ولو راجعنا نص "ميثاق الصلح" بين الامام الحسن بن علي عليهما السلام ومعاوية الطليق لوقفنا على حقيقة التاريخ المزيف والمزور، وظلم الخاصة قبل العامة الذين لا زالوا يتمسكون بظاهرية الميثاق دون حقيقته وباطنه وأسبابه ليدفعوا بالأمة نحو الركون والخنوع والمذلة لأعداء الإسلام والأمة هنا وهناك، وقبول أنظمة الجور والفرعنة والديكتاتورية، وإبعادهم عن الجهاد وكلمة الحق أمام سلطان جائر أو القيام من أجل تحقيق أسس الإسلام المحمدي الأصيل.