هذا الإنتاج الأدبي مضى عليه قرابة القرن ونصف من الزمن تأليف الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي,
تعدُ رواية الجريمة والعقاب من أشهر رواياته حيث نشرت على شكل سلسلة من الأجزاء في المجلة الأدبية الروسية في عام 1866م وذلك قبل نشرها في كتاب كامل تحت عنوان الجريمة والعقاب.
وكأن المؤلف في روايته هذه يتنبأ بما سيحدث خلال العقود القادمة في ظل الغزو الحداثي للعالم!
وما يتبين لي بأن الكاتب شخص بلغ من المعرفة النفسية مبلغًا كبيرًا وقطع شوطًا طويلًا في تصور مكامن النفوس البشرية، فلذلك هو يحسن تصوير نفسيات شخصياته وتبيانها.
أو أنه شخص مضطرب نفسيا بالأصل فاستطاع أن يُحاكي هذا الاضطراب بشكل دقيق في روايته هذه؛ إذ أن “غالبًا” الشخص السوّي يصعب عليه أن يصوّر أو يُحاكي المضطرب نفسيًا في الكثير أو في أدق التفاصيل.
السؤال الذي طرحته على نفسي بعد إكمال قراءة الرواية: يشعر القارئ نفسه نظيرا للبطل يفرح لفرحه ويحزن ويتألم لحزنهِ وألمه، لكن هل تصل درجة التقمص إلى انتقال العدوى من البطل إلى القارئ؟!
الجريمة والعقاب رواية عالمية, موضوعها سيكولوجي, ملحمة نفسية فلسفية, فمن الناحية الموضوعية أو العلمية فهي عالية الجودة.
أساس بنائها مبني على الصراع الداخلي عند الإنسان وخاصةً الرغبة في التعبير عن النفس وإثباتها في مواجهة الأخلاقيات والقوانين التي أوجدها البشر مما يجعلنا نحس بقلق مضن ونتساءل عن العدالة في هذا العالم وفي الوقت ذاته نتساءل عما إذا كان يحق لنا الاقتصاص لتحقيق العدالة؟
مؤلف الرواية جعل نفسه شريكاً لنا في تصرفاتنا وأفعالنا السيئة منها قبل الحسنة, فتمكن من الغوص إلى أعماق أعماقنا, تعرف على أفكارنا, التي كثيراً ما كنا نرغب ألا يتعرف أحد إليها, فجعلنا محرجين, ليس أمام الآخرين وحسب, بل, وحتى, أمام أنفسنا.
كتب دوستويفسكي الجريمة والعقاب مفكرًا في الراديكاليين الشباب في ذلك الوقت الذين أنكروا المبادئ الأخلاقية المسيحية التقليدية والذين كانوا يدافعون عن الإطاحة العنيفة بالنظام القيصري واستبداله بنظام اجتماعي وسياسي قائم على السبب (العقلانية) فقط. أراد هؤلاء المتطرفون الشباب فعل الخير من خلال العنف، كما أراد دوستويفسكي نفسه أن يفعل في شبابه قبل أن يُحكم عليه بالإعدام ثم يُعفى عنه ويُرسل إلى سنوات من العمل القسري في معسكر اعتقال في سيبيريا, فتعرف على السجناء الذين كانوا يقتلون الأطفال لمجرد التسلية والذين لم يشعروا بأي ندم.
هذه الرواية في حد ذاتها صورة تعكس حياة المجتمع الروسي حينها، وترفع من شأن الإنسان الأعلى عبر التطهير والعودة إلى الإيمان.
تمثل الرواية ست شخصيات تقريبا من بينها شخصية متناقضة و مزدوجة وهو البطل, روديون رومانوفتش راسكولينكوف, طالب بائس متشظي لعدم شعوره بالانتماء إلى الوسط الذي يعيش فيه، تتولد لديه الكثير من الأسئلة والهواجس والأفكار التي تتسم بالطابع الانشقاقي والعدائي للمجتمع, يرى نفسه أنه أعلى مكانةً من سواه, ومن حقه أن يرتكب جريمة ما لكي يصل إلى المكانة التي يستحق، ألا يفعل كبار السياسيين ذلك؟
ألا يرسل القادة جنودهم إلى الموت ليرتقوا في سلم المجد؟
ولذلك كان راسكولنيكوف بحاجة لقتل عجوز لا قيمة لها تملك مالاً لكي يشق طريقه ويحقق مراده، ولكن ما دفعه حقاً لذلك هو تحديه لنفسه، ورغبته في اكتشاف حدوده وقدراته، فهل أجرؤ على ذلك؟
هذا السؤال الذي قاد الناس لتسلق الجبال والقفز من الطائرة، ومغازلة فتاة جميلة بعيدة المنال، هل أنا قملة أم رجل عظيم؟
يتساءل الروائي في روايته: هل قتل الإنسان للإنسان جريمة؟
إذا كان الجواب: نعم، فلماذا لا نحاسب بعض الأشخاص كنابليون وهتلر وغيرهما الذين قتلوا المئات، بل الألاف من الناس الأبرياء، ومع ذلك يُنظر إليهم كأبطال أو كقادة كبار، ما الذي جعل هؤلاء بمرتبة عليا لا تمسهم يد القانون و العدالة؟
نجد الكاتب يهتم كثيراً في روايته بإبراز ظروف الواقع الاجتماعي، التي تحصل فيها الجريمة كثمرة من ثمرات (السكر والدعارة و الفقر)، وهذه الأمراض الاجتماعية هي التي يعانيها سكان مدينة بطرسبرج (مسرح احداث الرواية).
الحقيقة قارئ تلك الرواية يمسه قبس من تلك النار التي أضرمت في عقله, إنها الحمى التي عصفت بعقل البطل وجعلت عقابه الأليم هو التفكير الزائد عن الحد.
نتيجة سئمنا قوالب الروتين التي وضعتها متطلبات الحياة اليومية يدعو عقل القارئ إلى أن يتعاطف مع العقل الذي أعلن تمرده على صاحبه فأحال حياته جحيمًا
أما المشهد المؤثر في هذه الرواية: أنا لا أسجد أمامك أنتِ . . بل أمام معاناة البشرية كلها.
هكذا تحدث راسكولينكوف إلى صونيا تلك الفتاة البائسة التي باعت جسدها من أجل إطعام أخوة لها من أبيها الذي ترك وظيفته المرموقة بعد إدمانه الخمر، هؤلاء الأطفال وأمهم المريضة بالسل كان يترصدهم شبح الموت جوعاً، لكنها كانت ملاذهم الآمن.
عبارة دوستويفسكي تدغدغ المشاعر كعبارته: الجمال سينقذ العالم.
بالطبع لا يتحدث عن جمال وجهها فقط، بل الجمال الذي يقصده هو انسجام الشكل والمضمون، فجمالها يتجلى في عظم إنسانيتها التي دفعتها للتضحية بهذا الجسد من أجل إطعام الصغار.
أنهى الروائي روايته بإسقاط رائع ليصفع ضمير العالم حينها ليفيق من ذلك السبات العميق بقوله على لسان راسكولينكوف:
ليهرق كل الناس ما شاؤوا من الدم. إن ما سال منه وما سيسيل جزافًا على الأرض، يهرق كما تسفح الشامبانيا. ومن أجله يتوجون في الكابيتول، ويرفعون إلى مصاف المحسنين للإنسانية.
وأخيرا فإن الرواية تظهر كيف أن الدين لا يعد شأناً شخصياً وإنما يعدّ مكوناً من مكونات الهوية الجماعية والفردية, فالبطل فراسكولينكوف بعد تشوشه بفعل حداثة القتل لن يجد الخلاص إلا بالعودة لهويته الدينية عن طريق من شعر تجاهها بعاطفة جياشة جعلته بمصالحة مع القيم المسيحية و مع هويته القومية.
والنهاية تظهر نزعة المؤلف القومية ورفضه للقيم الليبرالية الأوروبية وعداءه الشديد لها.