تشخَص أبصار العَالَم هذه الأيام إلى العِراق العزيز وقد أشرعَ الشِّراع صَوبه قداسة البابا فرنسيس في زيارته التاريخية الأولى إليه منذ اختاره التدبير الإلهيّ رُباناً لسفينة القديس الشهيد بطرس الرسول "الصـَّخرة، الصـَّفاة" التي بـُنـِيـَت عليها الكنيسة الأولى.
إنّ مَحَبـَّـتـَه لهذه الديار المباركة التي منها انطلقت حضارات إنسانية وتعاقبت عليها مَدنيَّات مختلفة حَمـَلـَتْ مَشاعِلَ الكـَلِمةِ إلى أصقاعِ الدنيا دَفعت قداسته لزيارتها، وفي فِكره ويقينه ونُصْب عينه أيضاً مِنزلة العراق الروحية المَائِزة المُميَّزة إذ انطلق مِن أرضه وبإيمانٍ ورجاءٍ ليس كمثلِهما " أبو الأنبياء والشعوب" شيخ البشرية وإمام الناس، "وبَرَكة الأمم" ومضى إلى حيث شاء الرب أن يمضي على قوله له "أبارككَ وأعُظِّم اسمكَ وتكونَ بركة ً فتتبارك فيك جميع قبائل الأرض".
إن زيارة الحج هذه لقداسته في هذا الوقت العصيب والمشحون بالتحديات والصعوبات وحيث لا يزال أعداء الحياة ينسجون في عَتمة الليل خِططهم الإجرامية بحق الأبرياء والمُنجزات، تُشكِّلُ بحقٍ مبادرة شجاعة نبيلة المَقصد سامية الهدف وإنها لخُطوة حكيمة رائدة تُجسِّد بالفِعل ما عبَّر عنه قداسته لمراتٍ كثيرة أن قلبه وفكره مع العراق، ومُعلناً قُربه من هذا الشعب وما عَاناه.. ومِن أجلهِ يرفع صلواته وابتهالاته. لذا ستحملُ الزيارة بعون الله بما يواكبها من برامجَ وفاعِليات مختلفة في ثناياها علامات يُمنٍ وتباشير خيرٍ للعراق وأهله، أهل المكارم الذين جيلاً إثرَ جيلٍ أسهموا إسهاماً يُشهد له في بناء الحضارة الإنسانية وتقدمها.
قداسةَ الحبر الأعظم، أيـّها الضيف الجليل المقام: ها هُم ذا العراقيونَ بكافة مواقعهم وأطيافهم وشرائحهم الاجتماعية سَيلتفُّون بوَحدةِ قـَلـْب ووَحدَةِ أنفاس وكعـِقـدِ لؤلؤٍ للتـَّرحيبِ بِكـُم ضيفاً عزيزاً وحاجاً تَقياً نَقياً مُبارَكاً، ومُبارِكاً الجميع حيثما حَللتَ.. وها هي ذا ترانيم الجَّوقات بروحانيـَّة شرقيـَّة أصيلة قد تهيأت لِتُمجِّد بحضوركم البهي وتُسَبِّحَ خالِق الكـُلّ ربّ العالمين الرحمن الرحيم، ولِتُقدِّمَ شُكرانها إليه تعالى على نِعمةِ زيارتكم وما تحمِل من رجاءٍ وبَرَكةٍ وأمل، وستدعوه معكم وبقلوب خاشعة مؤمنة أن يـُحِلَّ عَدلـَه وسلامَه واستقراره على بلدهم وعلى شرقنا العربي والعَالمِ بأسْرِهِ.
قداسةَ الحبر الأعظم، يا حامل رسالة المحبة، المحبة التي لا تحُدُّها حدود العقيدة أو العِرق أو اللغة أو اللون ، إنها محبة الآخر، المحبة التي بها ومِن خلالها نَعبُر نحو الأنْسَنةِ الحَقة ونحقِّق كرامة الإنسان وحريته، إيَّاكَ نرجو صرخةً تؤجِّج بها الضمائر وتوقظ النفوس فالحضارة العالمية في خطر، والسِّلم العالمي في خطر، والصراع بين النور والظلمة على أشُدِّه، وقوى الدمار والشر تفتُك بالمنتصرين للمبادئ الإنسانية والأخلاقية، واللاعُنف يُقابل بالعنف، وصدور العاملين للعدل والسلام تتعرض لِسهام خُصُوم السلام!
فارفع صوتـَكَ المَسموع، صوت الحكمة والأمل المنشود المُرتجى، ولا شكَّ أنك لا تنفك ترفعه، كي تُسْتَنفرَ طاقات الخيِّرين مِن أصحاب الشأن والقرار في عالمِنا كله وأصحاب النيَّات الصافية حيثما وُجِدوا لوقف الحروب والنزاعات والاضطرابات والفوضى التي أخذت تستوطن حيث النظام والاستقرار والأمان، وليعود كل مُهاجرٍ أو مُهَجَّرٍ لأرضه ووطنه، ولوضع حدٍ لأصحاب المآرب الذين هواهم إثارة العصبيَّات وإيقاظ الفتن بين النسيج الواحد لِناسٍ متآلفين مُتحابين يَسعونَ لرزقهم اليومي وتامين مستقبل آمنٍ لأبنائهم من بعد!
وإياك نرجو أن ترفع صوتـَكَ المَسموع، ولا شكَّ أنك لا تنفك ترفعه، كي لا تُحَوَّلَ مِن بعد، خيرات الدنيا وثروات الأرض لتصنيعِ آلاتِ الحربِ والدمارِ والقتلِ والتشريد، في وقتٍ تتعالى فيه تنهدات الفقراء والجياع، وتُمزِّق نياط القلوب زفرات المرضى مِن الأوبئة التي باتت تفتك ولا ترحم.
وأخيراً، لا تَسَلْ يا رَجُلَ السلام والمحبة، ويا مِثال المتأمِّلين والأصفياء والمتواضعين عن غبطة العراقيين بزيارتكم المباركة لبلدهم العزيز. وأراني على يقينٍ مِن قَرَارَتِ قُلوبهم وَتَخَطُّرات أفكارهم عمَّا حباكم الله من مواهبَ روحية، وعِلمٍ غزيرٍ، وخبرةٍ مَكينةٍ، وفِكرٍ نيّر حكيمٍ، وقلبٍ كبير متواضعٍ مُزدهرٍ بالمحبة. فألف مرحى تترددُ مِن شَغاف القلوب لكم لهذه الزيارة المَهيبة المُثمرة التي ستبقى محفورة في الأذهان ومُسجَّلة بأحرف من نورٍ على صَفَحات التاريخ.
حنا ميخائيل سلامة نُعمان
كاتب وباحث
Hanna_salameh@yahoo.com