توارثت الشعوب عادات وتقاليد اعتبروها بديهيات مسلم بها ، لا يحق لفرد نقدها او مناقشتها حتى ، لا احد منهم يعلم على وجه التحديد من مارسها أو من أوصاهم بها ، كل جيل يستلمها من الجيل الذي سبقه وبدوره يسلمها الى الجيل الذي يليه دون ذكر التفاصيل ، لكن بمرور الزمن وتطور العقل البشري فتحت الأجيال المتلقية للموروث باب السؤال ، طلباً للحقيقة والمعرفة .
لم تعد الأجيال الصاعدة تكتفي بالتلقي دون السؤال عن فحوى أو كنه العادات التقليدية التي وجدوا عليها من سبقهم ، إن أقنعتهم الأجوبة تأخذ تلك العادات طريقها بينهم بسلاسة ، وإن لم تقنعهم يكونوا بين خيارين أما المتاركة أو التسليم بها كموروث شعبي أو كلام عجائز ، لا بأس بممارسته ، ولا يشترط الإيمان والتصديق به ، خصوصاً وإن عدم ممارسته والإيمان به لن يضر أحداً ، وإن كانت بعض الشعوب تهدد أتباعها بحلول لعنة الآلهة في حالة عدم الإيمان.
العرب كباقي الشعوب لديهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة ، بعضها متوارثاً وبعضها مكتسباً ، المتوارث منها أبقوه على حاله وربما طوروه قليلاً ، والمكتسب منها بمرور الوقت أكتسب صفة التعريب النهائية بعد أن تمسكت به الأجيال بقوة حتى صار عقيدة يعتقد بها ، عقيدة تستحق الدفاع عنها .
العراقي لا يختلف عن باقي العرب في التمسك بالموروث الشعبي والحنين اليه ، لكنه ربما تزمت بعض الشيء وتعصب له بطبيعته وطبعه المعلوم ، كثيراً منهم يتلقى الخرافات برحابة صدر وإيمان بالغ وربما دافع عنها بشراسة بدون معرفة مسبقة وبدون أن يتحقق منها حتى ، يمارس كل ما يسمع من طقوس ترويها المسميات المتداولة (العجائز ، الطريحة ، الكشافة أو الكشاف ، السيد ، المجبولة ، الخادم ، الجدة ، العمة ، الحكيم ، فتاح الفال ، الفطيرة ، المسلوبة ، الروحاني "أياً كانت المسميات ") بإيمان بالغ وكأن ما سمع هو أكسير الحياة .
تنتشر هذه الخرافات في المجتمعات متدنية الثقافة وبين من حرموا من نعمة التعليم ، فلا ثقافة لديهم تقابل الخرافة ، ولا عقل واع يبحث في الحقيقة والمصدر ، من بين تلك الخرافات الشائعة ما يسمى بـ "الجبسة" ، أو ما يعرف بينهم بـ "جبسة الطفل" أو "الطفل المجبوس" ، وهو مرض من الأمراض الغريب التي تنتاب الأطفال الرضع قد يعجز أو يواجه الطبيب صعوبة في التشخيص الصحيح وبالتالي وضع العلاج الناجع ، فكرة الجبسة أو آليتها حسب الموروث دخول الأب البيت وإنحنائه لتقبيل أبنه الرضيع أو الدخول الى الغرفة بشكل مفاجئ حيث يجلس الأطفال أو الزوجة الحامل بالخصوص ، حيث يكون قد أكتسب حرارة أشعة الشمس "صيفاً وبرداً في الشتاء" وقد بذل جهداً عضلياً في الخارج ولا تزال آثار ذلك على جسمه ، أما ملابسه بالخصوص ، لابد وأن تكون قد اكتسبت غباراً أو روائح مختلفة كالأبخرة المنبعثة من عوادم السيارات أو بعض أنواع العطور الناتجة من مصافحة وملامسة الأصدقاء ، بالإضافة الى حرارة الجسم ، الأب في هذا الحال يكون كتلة قاتلة أو سامة لجميع العائلة وبالخصوص الطفل الرضيع ، حيث إن روائح عوادم السيارات والغبار وأنواع العطور لازالت عالقة في ملابسه وحرارة جسمه من الجهد المبذول في الخارج تؤثر سلباً على الطفل الرضيع المعروف بضعف مناعته ، فينبغي له "الأب" أن لا يلامسه حتى يستريح قليلاً ويبرد جسمه ويغير ملابسه على الأقل ، وإلا فإنه لو قبل طفله في هذه الحال سوف تتسرب الروائح الى أنف ورئتي الطفل الرضيع فينفر منها ويشمئز لكنه لا يستطيع أن يخبر أحداً أو أن يتفاداها فتنتابه وعكة صحية غامضة ، قيء ، اسهال ، شعور بعد الراحة ، بكاء ، فيقال عند ذاك "إن الأب جبس أبنه" ، ولا علاج للجبسة عند الطبيب ، فقط العلاج يكون عند الجدات ذوات الخبرة بهذا الشأن.
فكرة الجبسة هذه لم تأتي من فراغ ، بل لها جذور متجذرة لدى المشعوذين ومدعي المعرفة بالروحانيات وعوالم ما وراء الطبيعة ، حيث يدعي هؤلاء إن الرجل عندما يخرج من البيت طلباً للعمل وغيره ، يكتسب شحنات مستقرة وغير مستقرة أثناء تعامله مع الناس ، تارةً يضحك ويستبشر بسماع ومشاهدة أشياء تسره ، وتارة ينزعج ويحزن بسماع ومشاهدة ما لا يسره ، تمر عليه كافة الانفعالات النفسية في يومه ، بذا يكون قد اكتسب من الشحنات الكثير يجلبها معه الى المنزل كهدية خفية غير محسوب حسابها قد تكون سيئة إن كانت شحناته سالبة ، وجيدة إن كانت شحناته موجبة ، في كلا الحالين توجب عليه أن لا يقابل أي فرد من أفراد عائلته بشكل مباشر ما لم يسترح قليلا ويجري بعض التغيير على ملابسه أو حالته النفسية ، فالمرء لا يعلم على وجه التحديد نوع شحناته ، وإلا فإن شحناته إن كانت سالبة قد تؤثر سلباً على أي فرد من العائلة إن لامسه بشكل مباشر ، هذا المفهوم لا يختلف كثيراً عن مفاهيم الطاقة ! .
من الناحية الطبية قد ينال الأمر بعض التأييد ، على أساس إن الأب عندما يتحرك في الأسواق ويلتقي بأشخاص كثر ، قد يلامسهم بالمصافحة وغيرها ويتبادل معهم التحايا والسلام ، بذا قد يكتسب بعض الميكروبات والتي سيجلبها معه الى البيت ، وبالتالي ينقلها بمجرد أن يلامسه أي فرد من أفراد العائلة بصورة مباشرة.
ومن الخرافات الأخرى الموصوفة لسلوى العاشق ، حيث توصف كي ينسى العاشق عشيقته ، أو ينسى المرء صديقه الذي يحبه حباً شديداً وقد فارقه لظروف معينة ، فيصف الحكيم أو الكشاف له استعمال نعل أو حذاء امرأة مستعمل مرمي على قارعة الطريق أو في المزابل ، هذا للرجل العاشق ، أما المرأة العاشقة فتستعمل حذاء أو نعل رجل قديم مرمي في المزابل ، فيضرب "أو تضرب" قلبه وصدره بالنعل عدة مرات ولمدة اسبوع ، كأن تكون الضربات ثلاث ضربات في النهار ومثلها في الليل إسبوعاً كاملاً ، فأنه سوف يسلى عمن أحب وعشق !.
هذه الوصفة ليست وليدة أفكار الناس ، بل من صميم عقائد وافكار المشعوذين ، ولا يبعد أن يكونوا قد مرروها للناس البسطاء ، فتلقفوها تلقف الكرة ، جربوها بإتقان وربما أدت الدور المطلوب أو ربما ضحكوا على أنفسهم فيما بعد !.
يعتقد ويؤمن المشعوذون والروحانيون إن شحنات العاشق الحزين والمحب البائس سالبة ، ينبغي تفريغها والتخلص منها بطريقة ذكية "حسب الرأي" ، طريقة توائم عقل العاشق وثقافته ، بسيطة كبساطته ، مخادعة كالمشعوذين أنفسهم وتصب في عدة محاور :
1- كونها مشينة : حيث يقوم العاشق بعملية البحث عن نعال لإمرأة في الشوارع وفي حاويات القمامة ، وهذا يدفعه الى أن يفكر جيداً فيما يجري له ، فقد وصل به الحال أن يفتش في المزابل بحثاً عن نعال وهو ذاك الشخص الأبي ، هذا بذاته قد يكون كافياً لعودة العاشق الى رشده وصوابه.
2- كونها مهينة: إن تقبل الأمر واستمر مصراً على إيجاد النعل المطلوب ذو المواصفات الخاصة والتي يحددها المشعوذ ويقوم بتنفيذ العملية فيضرب قلبه وصدره بنعل قديم ومتهرئ في لحظة من اللحظات قد يعود الى صوابه ورشده ، ينتبه الى ما يفعل من أجل سراب وعواصف فكرية جامحة لا وجود لها إلا في مخيلته ، فيصحو ويرجع إنساناً طبيعياً.
3- المدة : إن لم تنفع الطريقتين أعلاه في صحوة العاشق وعودته الى طبيعته فلابد وإن المدة (7 أيام) من التفكير بطرد المعشوقة من خيالاته توفر له تدريباً سيكولوجياً واستعداداً نفسياً لمتاركة المعشوق وإيقاف غزوها لمخيلته ، التفكير بالنسيان مرتين يومياً بحد ذاته يعد تمريناً وتدريباً على النسيان.
يظن المشعوذون أنفسهم أذكياء في صنع وتركيب وصفاتهم العلاجية ، وهم كذلك فعلاً ، لكن .. ليس في الوصفات وصنعها ووضعها ، لا بل هم أذكياء جداً في مقدرتهم بالتلاعب ومحاكاة عقول البسطاء ، وهم الأقدر من غيرهم في ذلك .
طالما وإن البسطاء هم الغالبية في المجتمع فإن المشعوذين هم الأقدر في التلاعب بكل المجتمع من خلال وضع وصفات وأفكاراً تتناغم وتنسجم مع أفكار وعقول الغالبية البسيطة ثقافياً.