موازين القوى بعد فيروس كورونا لن تكون كما كانت عليه كسابق عهدها، هذا الفيروس سيخلق خريطة جديدة في الجغرافية السياسية، أو بالأحرى "عالما جديدا"، سنشهد معه تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة، فكلّ شيء معرض للتغيير بعد "زلزال" كورونا: النظام العالمي، الاقتصاد الدولي، النظام الديمقراطي الليبرالي.
في هذا المقال نحاول الإشارة إلى اهم المشاهد المحتملة وفق المعطيات الحالية حول مستقبل العالم بعد كورونا، سعياً منا للكشف عن ملامح النظام العالمي الجديد بعد انحسار جائحة كورونا.
وتتمثل مشكلة المقال بسؤال مفاده: هل سيتغير النظام العالمي بعد الجائحة؟ وماهي تأثيرات الوباء الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ والجواب المفترض أن النظام العالمي الجديد سوف ينهي على النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وأن عالما جديدا سوف يتشكل، وستكون الاهمية القصوى للخدمات الصحية وادارة الازمات، فضلا عن الاكتفاء الذاتي وكيفية ادارة الموارد بالطريقة المثلى.
لا يزال العالم يعيش تحت وطأة الجائحة وتداعياتها، لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الفيروس المستجدّ، الذي طالت أخطاره الجميع ، تاركاً بصماته على مختلف مناحي الحياة، أجلس نصف سكان العالم في منازلهم، أغلق المدن، أضرّ بالاقتصاد، اوقف السياحة والصناعة وحركة النقل، وهو بهذا يعد أكبر تحدٍّ يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية ،وفقا لقول الامين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش.
أحدث وباء كورونا، ولا يزال تحولّات كبيرة متسارعة، على مستويات عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وصحيّة، ففي الوقت الذي يخوض العالم حربه ضد هذا الوباء؛ بدأ واقع جديد يتشكّل وتظهر ملامحه، بتعقيدات ومفاهيم مختلفة، ستسهم في رسم ملامح عالم ما بعد كورونا، والى ذلك اشار معظم المحللين والساسة الغرب، فهذا هنري كسينجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ينصح الحكام بالاستعداد للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد فيروس كورونا، وهذا مايتفق معه اغلب محللي الجغرافيا السياسية الذين يدركون أنهم شهود على انبلاج فجر عصر جديد فيما يتصاعد الجدل وتكثر التحليلات التي تحاول التنبؤ بمستقبل العالم بعد انحسار الوباء، خاصة وأن ما ترتّب على ظهور الفيروس، لحظة فارقة في التاريخ البشري، من تداعيات، يأتي ضمن نقاط التحوّل المركزية، التي ستترك تساؤلات كبرى حول السياسة المحلية، والسياسة والعلاقات الدولية في عالم معولم.
إلا أن العديد من مراكز الأبحاث واستشراف المستقبل قد بدأت في التفكير في رسم خريطة لما ستؤول إليه الأمور في عالم السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية بعد انتهاء جائحة فيروس كورونا المستجد.
وفي هذا المجال يتنبأ اكثر الباحثين بعدة تغييرات اساسية سوف يشهدها العالم في مرحلة ما بعد كورونا أهمها.
أولًا: يحتمل نشوء عالم متعدد الاقطاب، علماً ان وباء كورونا قد اظهر للعالم ان القوى الكبرى الحالية ممثلة بالولايات المتحدة قد اخفقت الى حد كبير في ريادة العالم والتعامل مع ازماته، وهناك من يشير الى ظهور الصين بوصفها بديل للولايات المتحدة الامريكية في قيادة العالم أي حدوث تغييرات في موازين القوى العالمية، وصعود الحركات القومية والأنظمة السلطوية مع تراجع في ممارسة الديمقراطية بشكلها الحالي، والتوقع بصعود الصين كقوة عظمى بديلة لم يأت من فراغ فهناك ممهدات ودلائل ومؤشرات منها الدور الحيوي الذي لعبته في مجال مواجهة فايروس كورونا ونجاحها في مساعدة الكثير من الدول، وهي بذلك استطاعت خطب ود الكثير من الدول لانها لم تتصرف بانتهازية فهي قوة ناعمة قريبة من وجدان الدول النامية لاتسعى للهيمنة واستغلال النفوذ، وهي بذلك احسنت استغلال ازمة كورونا مقابل انخفاض في اسهم واشنطن وغيرها من الدول الاوربية.
ثانيا: أن الانعكاسات الاقتصادية للوباء ستفرض علاقات جديدة بين الدول، لأنّ هذا الوباء على الرغم من انه لم يمسّ قارة دون أخرى أو حاصر دولًا بعينها، الا ان تأثيراته ليست بالعمق نفسه، لذا فان مخاطر فيروس كورونا الاقتصادية أكبر بكثير من مخاطره على الصحة العامة.
والجدير ذكره ان الصعود الصيني ليس محض صدفة او امر مفاجأ بل بدأ التسلق الصيني بخطوات واثقة قبل عدة سنوات من خلال قفزات اقتصادية كبيرة بعضها ازعج الامريكان والدول الغربية .
ثالثا: كشف فيروس كورونا عن هشاشة العولمة ، اذ لم تعد العولمة هي المتحكمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أي انها ستنتهي بوضعها الحالي ويعقبها تغييرات اساسية في شكل العلاقات السياسية والتجارة الدولية بسبب اختلاف المصالح الاقتصادية ويقينا ان تداعيات ازمة كورنا تحول العالم إلى اقتصاد الاعتماد على النقس بدلا من العولمة.
رابعا: يتوقع معظم الباحثين اختفاء الرأسمالية بشكلها الحالي، وظهور رأسمالية جديدة بديلاً حقيقياً عن الرأسمالية الحالية التي تمتاز بالحدية والقسوة وسحق طبقات من الفقراء والمعوزين، وهذا بالطبع ناجم عن اضمحلال دور الشركات الرائدة في حركة التجارة العالمية لان الفيروس الجديد منع الانفتاح الكبير التي كانت تمتاز به تلك الشركات في ضوء العولمة.
خامساً: أظهرت الجائحة أن أيا من بلدان العالم مهما بلغت درجة ثرائه وقوة نظامه الصحي فلن يكون قادرا على التصدي للوباء بمفرده، لذا لابد من التكاتف والتآزر والتضامن والعمل الجماعي بين الدول، وأن الدول التي تؤمن بالاقتصاد الحرّ والليبرالي اهتمت كذلك بالرعاية الاجتماعية، إن التفكير في إنقاذ الاقتصاد دون التفريط في حياة المواطنين يبين أن الإنسانية لم تفقد بوصلتها الأخلاقية.
سادسا: أن الجائحة قد نجحت في وقف الصراعات مؤقتًا في بعض جهات العالم ومنها اليمن وسوريا وليبيا، وهي صراعات فشل النظام العالمي في وقفها بسبب الخلافات السياسية بين الدول.
سابعاً: اظهرت الازمة ضرورة تفعيل دور الأفراد والمؤسسات والجمعيات غير الحكومية مع الحكومات لمواجهة الأزمة، لقد أثبتت الجائحة ان حصر مسئولية التصدي للمرض في الأجهزة التابعة للدولة، لن يكون فعالا ولا ناجحا. وأن الجهود التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني، هي مسئولية تقع على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع.
ثامنا: كشفت الأزمة الحالية أن دولا كثيرة تعاني من قصور في مقدرة مؤسساتها على المواجهة، مما يستدعي إعادة هيكلة مؤسسات تلك الدول من الداخل وإعادة طريقة اختيار القيادات.
تبدو الدول الضعيفة التي تملك أنظمة صحية هشة وغير جاهزة لمواجهة وضع ينتشر فيه الفيروس على قاعدة واسعة منشغلة اليوم بمحاولة منع المرض وتأخير ظهوره
ومهما كانت وجهات النظر في مسببات وتداعيات جائحة كورونا، ومهما بلغت الخسائر المادية والبشرية الناتجة عنها، فمن الواضح أن عالم مابعد كورونا سوف يشهد تغييرات وربما يكون مخالفا لما قبله بنسب ودرجات متفاوتة.