لابد من القول في البداية، ان القضاء الدستوري في مختلف الدساتير يتمتع بمكانة عالية منحتها له تلك الدساتير بنصوص واضحة ودقيقة لا بل أن البعض – القضاء الدستوري-قد أنتزع هذا الحق في الرقابة على دستورية القوانين انتزاعاً باعتبارها جزء لا يتجزأ من وظيفة القاضي، وهو حال المحكمة العليا الامريكية المؤسسة الحقيقة لتلك الرقابة الأولى. وتعتبر كما يقول القاضي فرانكفورتر دالاً على تلك المكانة السامية لهذا القضاء:" المحكمة ليسن القيمة فقط على الدستور والناطق باسمه، بل هي الدستور ذاته"، بل أنها ذهبت أبعد من هذا كثيراً في أحكامها تأكيداً للمكانة السامية لها إذ تقول:" نحن نعمل في إطار الدستور ولكن الدستور هو ما نقرره نحن بانه دستور".
وفي نفس السياق فإن المحكمة الدستورية العليا في مصر والتي استلهمت الكثير من المبادئ والقيم لتأسيس أحكامها الدستورية الى اقتباسات تكون نصية في كثير من الأحكام إلى ما ذهبت اليه المحكمة العليا الامريكية، لذلك تقول –المحكمة الدستورية العليا في مصر-ما نصه:" أن النصوص الدستورية لا يجوز تفسيرها باعتبارها حلاً نهائياً ودائماً ...، جاوز الزمان حقائقها، فلا يكون تبنيها والإصرار عليها، ثم فرضها بآلية عمياء إلا حرثاً في البحر، بل يتعين فهمها على ضوء قيم أعلى غايتها تحرير المواطن سياسياً واقتصادياً...، وأن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يُعارض تطويعها لأفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها، فلا يكون الدستور كافلاً لها بل حائلاً دون ضمانها...، فالدستور وثيقة تقدمية لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة، فلا يكون نسيجها إلا تناغماً مع روح العصر، وما يكون كافلاً للتقدم في مرحلة بذاتها، يكون حرياً بالإتباع بما لا يناقض احكاماً تضمنها الدستور".
وبالتالي فقد جاء دستور جمهورية العراق ليكرس تلك المبادئ السامية في الدول الديمقراطية والأهمية والمكانة الرفيعة التي يجب أن يكون عليها القضاء الدستوري العراقي متمثلاً بالمحكمة الاتحادية العليا، فجاءت النصوص الدستورية دالة على هذا المنهاج والمسلك، بنصوص واضحة ودقيقة لا تحتمل اللبس ولا الجدال كما في المواد (92،93،94) من دستور العراق لسنة 2005 النافذ وقانونها رقم 30 لسنة 2005م، فالدستور بتلك النصوص الواضحة قد جعل منها- المحكمة الاتحادية العليا- هيئة مستقلة مالياً وادارياً واحكامها ملزمة للسلطات كافة وهي الحامي الأوحد والأقدر والأسمى والاعلى للدستور، تمارس دورها التقدمي الانشائي الملائم من حيث الزمان والمكان، كما تقدم ذكره من الإحكام الدستورية.
وبالتالي أن القول من قبل بعض المتخصصين في القانون الدستوري في تعليقهم على مصادقة محكمة التمييز الاتحادية على حكم محكمة البداءة بالعدد 568/ ب/2020 المتضمن الغاء المرسوم الجمهوري رقم 4 والامر القضائي الصادر من المحكمة الاتحادية بالعدد 39/ت/2020، والذي يعتبره -بعض المتخصصين- بانه من السوابق القضائية الحديثة ويشيد به ويعتبره قانونياً بل استنباطاً عظيماً لحماية الدستور والقانون معاً، و هي – محكمة التمييز-حامية الدستور والقوانين وما زالت تتربع على قمة الهرم ومستمرة في سد النقص الموجود في نصوص الدستور والقوانين!!!!!!!!!!!!، وعلى السلطتين التنفيذية والتشريعية ان تضع نصب اعينها هذا !!!!. بل أن هذا الرأي المتخصص في القانون الدستوري يذهب إلى عدم جواز اتباع القضاء الدستوري وإجراءاته وأحكامه في تلك المسألة، وهو القضاء الانشائي الواقعي والمتطور، وهو الذي اتخذ المستوى الذي تلتزم به الدول الديمقراطية في قواعدها القانونية معياراً وضابطاً لرقابتها الدستورية على القواعد التشريعية.
فالرقابة القضائية كما كنا نعلم؟، قد عهد بها الدستور إلى المحكمة الاتحادية بوصفها الهيئة القضائية العليا التي اختصها دون غيرها من المحاكم بالفصل في دستورية القوانين والانظمة بغية الحفاظ على أحكام الدستور وصونها وحمايتها من الخروج عليها ومن خلال اتباع مركزية الرقابة على الدستورية بنص دستوري واضح لا يحتاج إلى تفسير. وأن القول خلاف ذلك من قبل-البعض-يضعنا بأننا أمام دستور جديد لا يمت لدستور جمهورية العراق النافذ بصلة، وتجاهل لحقيقة وواقعاً دستوريا نافذاً، بل يمثل اعتداءً وخطر كبير جدا يراد به أنهاء ذلك الدور المهم للقضاء الدستوري.
وأخيراً أتمنى الامعان في تلك الآراء قبل نشرها على مواقع الكترونية لها من الأهمية والرفعة والاحترام الشيء الكثير. لان مثل هذا النشر فيه تجني وعدم احترام كبير للدستور والمحكمة ومكانتها والمتلقي والمختص.