توطئة/ /أنهُ حقاً شاعرشغل الدنيا وملأ زمننا المعاصر بهجة وألماً بأشعارهِ التي جسدتْ عذابات شعب في أمّة وأمّة في كون ، وشغلنا أستلاباً يوماً بعد يوم ، وهل من مصادفات أستفزازات القدر أن يرحل هذا الجبل الفلسطيني الشامخ عن عمرٍ 67 عاماً --- 1941-2008 ، وهل هي مصادفة الزمن الأهوج ؟ أن يُعرفْ " محمود " من خلال أوجاع الجرح العميق في جسد الأمة في ذلك الرقم الهمجي المستفز ( 67 ) الذي غرس مخالبهُ المتوحشة في أعماق كل عربي حيث عام النكسة التي فُجعت بها فلسطين والوطن العربي أرضاً وشعباُ ---- وهو يتمتم ترنيمة ذلك العشق الصوفي لمعشوقته " غزّهْ
غزة لم تتقن الخطابة
ليس لغزة حنجرة
مسام جلدها هي التي تتكلم
عرقاً ودماً وحرائقاً
من هنا يكرهها العدو حتى القتل
ويخافها حتى الجريمة
" محمود درويش "
هوأحد أكبرشعراء العربية المعاصرين ، وهو فعلاً حالة شعرية فريدة ، وسوف أقارب تجربة درويش بعين محب وعاشق لشعره منذ بواكير الصبا عند محطة النكبة في 67 حينها أدمنتُ قراءة دواوينه وأعتنقتُ قصائده بتحيّز خصوصا عندما قال في شعراء العراق : { -- أذا أردت أن تكون شاعراً فكن عراقياً } ، وكل ما كتب محمود من أجل وطن ، ومات بلا وطن ، لا تأسى يا محمود لست وحدك مات بلا وطن فكلنا يا صديقي نعيشُ بلا أوطان ونموتُ بلا أوطان وكلنا حلم أوطان –وموتى منافي !؟ .
والذي يرصد خصائص تجربة أحد أكبر شعراء العربية المعاصرة بدءاً من عدم ركونهِ إلى الأتكاء على القضيّة الفلسطينية كحامل ومسوّقْ لشعرهِ ، ومروراً بتجربتهِ الطويلة والفنية في تطوير أدواتهِ الشعرية ووصوله بالشعر إلى تخوم الفلسفة من دون أن تفقد قصائدهُ غنائيتها المدهشة ودفقتها الأنفعالية الشجية ، وصولاً لعبورهِ بالهم الوطني إلى الفضاء الأنساني الواسع ( مقتطف من كتاب – محمود درويش / حالة شعرية للدكتورصلاح فضل ) ، يعتبر الشاعر محمود درويش أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين والذي كُتب أسمهُ على أبرز صفحات تأريخ الشعر والأدب العربي والغربي ، فهو شاعر ثوري مرتبط المشيمة بالوطن والثورة والذي توغّل في أعماق الأنسان المضطهد ، فعانى الشاعر ما عانى فقدمها بكل أناقة وشفافية في أشعارهِ بأجمل الأوصاف وأقربها إلى قلب القاريء وأبناء اللغة ، فمدوناتهِ وموروثاته الأدبية والشعرية ظهرت تأثيراتها على الجيل المعاصر ووصلت إلى الأجيال القادمة ، أهم مؤلفاته : عصافير بلا أجنحةعام 1960 /أوراق الزيتون عام 1964 / عاشق من فلسطين 1966 / آخر الليل 1967 / يوميات جرح فلسطيني/عرائس/شيء عن الوطن /وداعاً أيتها الحرية وداعاً أيها السلم .
أرتبط أسمهُ بأشعار الثورة والوطن كما أنهُ من أبرز الشعراء الذين طوروا الشعر العربي الحديث ، وأدخلوا الرموز أليهِ ، ألّف أكثر من ثلاثين ديواناً من الشعر والنثر ، ألف ثمانية كُتب وترجمت إلى مختلف اللغات في العالم ، ورحل هذا الشاعر الأستثنائي مبكرا في أب2008 كما هو الديدن الأهوج للموت اللعين الذي يسمى سارق اللذات ، وهو الموت الذي يأخذ كل شيء عدا الدموع لتحفر أخاديد الحسرة والوجع على ملامح المحبين وعشاق الحياة ، وأبدع محمود درويش حين قال فيه :{ --- أيها الموت أنتظرني في خارج الأرض ، ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي قرب خيمتك ، أنتظرني ريثما أنهي قراءة " طرفة بن العبد " }، وتلك هي مرثية الذات عند الشاعر المعدوم سبق الأصرار والترصد ، أستطاع محمود أن يبني أسطورتهُ الجميلة من ركامات وعذابات وجراحات شعبهِ الذي لن يعرف التأريخ ألماً مرّ بشعب سواه ، لذا كان الموت ضيفاً ثقيلاً عند سريرهِ بشكلٍ عاجل ليستوطن عندهُ ، وتأثر محمود درويش بجملةْ من الشعراء هم نزار قباني وأليوت ولوركا وأراغون ونيرودا .
قصيدة " جدارية محمود درويش " هي سيرة شعرية بمتاهات بعيدة متشابكة تحكي أرهاصات الروح المعذبة والوطن المستلب مع الضمير العالمي المغيّبْ بمؤشراتٍ واقعيّةٍ ملموسةٍ ، كتبها عام 1999 ترقى إلى ملحمة وسيرة وتأريخ وأسطورة ورؤيا ، فجدارية محمود ملحمة تخترق جدار الصوت والصمت معاً أنطلاقاً من تجربة حياتية ووجودية كيانية أساسها الأنسان الفلسطيني ، هنا يقول في مطلع القصيدة برثاء أستباقي للذات البشرية :
هذا هو أسمك ------ قالت أمرأة
وغابت في الممر اللولبي
أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء
صوتُ طفولةٍ أخرى
ولم أحلمْ بأني كنتُ أحلمْ
وأطيرُ سوف أكون ما سأصير في الفلك الأخير
أما أنا فقد أمتلأت
بكلِ أسباب الرحيل فلستُ لي
أنا لستُ لي ----أنا لستُ لي ؟!
بأعتقادي الشخصي : فهو خطاب الموت في جداريتهِ أو رثاء أستباقي للذات البشرية وربما هي تلك الضحية لمارد الموت ، وأجزم وأجزم أنها الوريث الشرعي للقصيدة العربية ، وما أطرها بتراثٍ فنيْ وجماليْ عبر محطات التأريخ ، والجدارية أثارت سيلاً تسونامياً جارفاً من الأسئلة حول الوجود وماهية الموت وصراعات حب الأرض وأرهاصات فواجع الزمن ، والقصيدة عبارة عن خارطة لجغرافية الكون الواسع عبر جدلٍ واقعي وخيالي وسردي درامي غنائي ملحمي الغرائبي والفجائعي والأغنية والنشيد والمستقبل المستحيل ولوعة الغياب وفوبيا الرحيل الأخير ، وقلتها قبل زمنٍ غير بعيد :
أن الجدارية تجاوز القصائد القصيرة والخاطفة ، فهي قصيدة مركبة حيث يتوسع في النص السردي بالأستعانة بالأسطورة والتصوّف والمزج بين الواقع والفنتازيا الفولكلورية بمسحة درامية دامية في أحيانٍ كثيرةٍ .
وتظهرالتفكيكية الشفافة بأوج لمعانها في " الجدارية " بدلالات رمزية أيحائية تؤشر بوصلتها إلى شاعر عاشق منكسر قريب من برزخ الفناء الأبدي الذي يهدد وجوديته ، فيتعامل بجمالية مرهفة مع الموت بعناصر ووسائل أسلحتهِ الفنية بأستثمار خبرتهُ الجمالية الثرّة من أجل القبض على الموت ، ويصوغ تلك الأفكار والرؤى بمحاور شعرية فهي بالتأكيد حالة ذهنية وشعورية يعيشها الشاعر في الجدارية ، ويقول فيها :
يا موت !!! يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث أثنين
يا لون التردد في الزمرد والزبرجد
أجلس على الكرسي
وضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تحدق يا قوي إلى شراييني
لترصد نقطة الضعف الأخيرة
والغريب أني أكتشفتُ أن الرجل يعلم يوم تنفيذ مقصلة الأعدام الرهيبة الموت وقد قرأتُ لهُ مقالة في هذه النهاية الرهيبة قبل أشهر من غيابهِ الأبدي في جريدة النهار البيروتية حيث يقول : { ---
وعند الفجر أيقضني نداء الحارس الليلي
من حلمي ومن لغتي :
ستحيا ميتة أخرى فعدّلْ في وصيتك الأخيرة
قد تأجل موعد الأعدام ثانية
سألتُ إلى متى ؟
وقال أنتظرلتموت أكثر
قلتُ لا أشياء أملكها لتملكني }
هكذا وفي عبارةٍ واحدةٍ يكشف الشاعر محمود في جداريتهِ ما حاول أن يقولهُ بأساليب متنوعة : أنّها لحظة التحدي الأخيرة بين لغةٍ وذاكرةٍ من جهة ونهاية كانت تقترب بسرعة ، فمن غير الشاعر يستطيع منازلة الموت بهذه الطريقة وذاك الدفق وهذا البوح وبحداثةٍ شعريةٍ غير مسبوقة حيث يتصاعد الخط البياني إلى قمة شرفة الموت ليهدي لنا تلك التجربة الأقتحامية شعراً آسراً يتوقف فيه الزمن ليكتشف المتلقي سفراً جديداً في الخلود من أبتكارات محمود درويش كلكامش العصر الحديث ، وتتنوع فيها المشاهد من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ أعتبرها حسب رأيي الشخصي أنّ محمود درويش أرتقى بجدارية مؤطرة بهيكلٍ سماويٍ مقدس وبطقوس صوفية ملكوتية وكنائسية لاهوتية بجوٍ ممزوج بضجيج أذان الفجر وأجراس كنائس يوم الأحد الحزين ترجمها إلى كل لغات العالم بحزائنية تراجيدية فلسطينية ل(معلقة) برسوم حداثوية .
تقول معلقة درويش :
هذا البحرُ لي
هذاالهواء الرطب لي
وهذا الرصيف وما عليه من خطاي وسائلي المنوي --- لي .
ومحطة الباص القديمة لي .
ولي شبحي وصاحبهُ ، وآية الكرسي
والمفتاح لي والباب والحراس والأجراس لي
وقصائد الورق التي أنتزعت من الأنجيل لي .
أما أنا فقد أمتلآتُ بكل أسباب الرحيل فلستُ لي .
أنا لستُ لي .
سأحلم كي أرمم داخلي المهجور من أثر الجفاف العاطفي .
فالجدارية وجه آخر للشاعر أضافة إلى وجههِ الشاعري الأنيق ، فهي مفرد لوني منسوب لأسمهِ ، فهي معانقة للروح وتحريك للوجدان لكونها تغوص في الذات والتأريخ والأسطورة وإلى الأرتباط بالأرض بحائط أورشليم --- بعكا العتيقة ، وأذا أردت أن تفتش عن محمود درويش أستعن بهذا المقطع الجميل من تلك الجدارية :
كلما فتشتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين و
كلما فتشتُ عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة .
والجدارية نشيد الذات وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم ، يقول :
لا شيء يبقى على حاله ، للولادة وقت ، وللموت وقت ، وللصمت وقت .
كل نهر سيشربهُ البحر ، والبحر ليس بملآن .
وينتقل درويش في الجدارية إلى جدارية التأريخ يقول :
أعلى من الأغوار كانت حكمتي ، أذ قلتُ للشيطان :
لا لا تمتحني ---
لا تضعني في الثنائيات .
وأتركني كما أنا زاهداً برواية العهد القديم .
وصاعداً نحو السماء هناك مملكتي .
خذ التأريخ --- وأصنع بالغرائز ما تريد --- .
وأخيراً : الجدارية رثاء أستباقي للذات ، تعالج ظواهر لغوية وتشكيلية كالتناص والرمز والأسطورة والصور الشعرية الأنيقة والجميلة والتكرار الغير ممل ، وخاطب حبيبته في الجدارية وأظهر شعر المقاومة المقدسة وهو يقول :
علمتني ضربة الجلاد ---- أن أمشي على جرحي.
وأمشي --- وأمشي وأقاوم