عند مطالعة سيرة أخر حياة الأديب الفذ والمفكر السياسي الحاذق الروائي جورج أورويل (1903-1950) نجد ما حصل له يشبه ما رصده محمود درويش من سلسلة طويلة للخيبات التي ذاقها العرب منذ عقود فوجه سؤالا مؤلما : بماذا سوف نحلم، حين نعود من الحلم وقد علمنا أن مريم لم تكن عذراء ؟
أفكار خيبة الأمل جعلته ينتج هذه الرواية المتشائمة السوداوية حول مستقبل البشر الذي ينذر بالخطر بسبب عبثية التطوّر التاريخي وبقدرة الانسان على تدمير انسانيته بعد سلبه حريته من قبل سلطة الدولة وأنظمة الحكم الاستبدادي الشمولي .
ومقابل هذه الخيبة تكللت روايته بالنجاح الباهر ,إذ احتلت المركز الثامن لأفضل مائة رواية مكتوبة بالإنجليزية في القرن العشرين. وترجمة لـ 65 لغة، أكثر من أي كتاب مكتوب باللغة الإنجليزية حينها، على الرغم من الحظر والحجب المستمر في الكثير من بلدان العالم.
أن أورويل في رواية«1984» لم يكتف بتحليل الفكر الاستبدادي وتحليل طريقة عمله, بل تجاوز ذلك ليتنبأ بنبؤات مستقبلية متكاملة مذهلة لما سوف يؤول إليه هذا الفكر إن استمر حاله على ما هو عليه.
فالرواية تعتبر من أهم مؤلفات الأدب الديستوبي(1) وتأثر رواية 1984 برواية (نحن) للكاتب الروسي يوجين زامياتين ,لكن أوريل استخدم أدب الخيال السياسي في مد خط الحلم الحداثي إلى أٌقصى استقامته, فكان لروايته تأثير كبير على روايات عديدة؛ فقد أثرت في رواية “فهرنهايت 451″ لـ “راي برادبوري”, و”الرجل الراكض” لـ “ستيفن كنج”, و “البرتقالة الميكانيكية” لـ “أرثر بيرجس”, ومن جهة أخرى كان لرواية “عالم جديد شجاع” لـ “ألدوس هكسلي” تأثيراً كبيراً على جورج أورويل أثناء كتابته لهذه الرواية.
وأيضا أصبحت تستعمل الكثير من عباراتها في علم النفس الحديث كعبارة (تفكير مزدوج) . وهذا ما يجعلها عالمية بكل المقاييس .
صور لنا الكاتب حياة الشعوب التي تحكمها الحكومة التوليتارية(2)، حيث يعيش الناس كالأموات، يتنفسون ويأكلون ويشربون ويخدمون الحزب فقط.
إنْ العنوان الأصلي للرواية الذي وضعه أورويل هو «الانسان الأخير في أوروبا».وكان مسيره فيها كخطى فيكتور سارج وتجاوزه في رصده وتحليله لآفات القهر في رواية «1984» ليؤكد أن عصر موت الانسان قد حلّ لأن الاستبداد أصبح قادرا على قتل الأمل والمقاومة.
المكان والزمان كان حاضرا ,إذ قامت الرواية على أرض بريطانيا والدولة من صنعت فيها نظاما لحياة زائفة ودولة خيالية للسيطرة على أفكار الشعب وأفعاله وعلاقاته.
وزمان نشر الرواية هو في غاية الأهمية؛ فعنوان الرواية بالنسبة لتاريخ نشرها يلمّح بأن السيناريو المستقبلي المخيف المذكور فيها قد لا يكون بعيداً, فالعقبة التي تحول دون تحققه كلياً هي مجرد عقبة تكنولوجية؛ وبشيء من التطور العلمي والتكنولوجي قد يصبح عالمنا – إن لم يكن كذلك الآن – مثل عالم “1984″.
وضع المؤلف في الفصل الأول من الرواية الإطار الجغرافي للرواية الذي اختاره عمدا في أحد بلدان أوروبا المتقدّمة ليفهم الناس أنّ مصير 1984 لا يستثني أي بلد أو مجتمع في العالم بأسره.
أما موضوع الرواية قسمه الكاتب إلى حكومة الحزب المؤلفه من أربع وزارات :
وزارة الحقيقة التي ظاهرياً تختص بالأخبار والثقافة . لكن في الحقيقة هي تزوّر الحقائق وتبتدع الأكاذيب. ومن خلالها يوضح المؤلف كيف أن الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق عن طريق اللغة السياسية .
وزارة الحب مهمتها التعذيب وغسل الدماغ
وزارة السلام المختصّة بشؤون الحرب والأسلحة.
وزارة الوفرة التي تُعنى بتجويع النّاس.
الشخصية الرئيسية في الرواية ونستون سميث وهو موظف حكومي في وزارة الحقيقة فرضت عليه سياسة الحزب الحاكم أن يعيش الحياة الرتيبة التي يعيشها سكان لندن، فهو وحيد من دون أصدقاء أو حتى حبيبة، بل كان يكره النساء. ويمتلك نزعة خجولة خائفة للتمرد .وارتكب جريمة بنظر قوانين الحزب بشرائه كراس وقلم من أجل الكتابة ,ففي المشهد الافتتاحي للرواية نرى المواطن “ونستون سميث”, والذي يعمل في وزارة الحقيقة (وزارة الإعلام) والمنوط بها تزييف الحقائق, نرى هذا المواطن وهو يدخل غرفته وقد أصابه الإحباط من دكتاتورية الحزب, ومن أسلوب الحياة الذي يفرضه. يفتح حينها دفترا كان قد اشتراه بشكل غير شرعي ليبدأ في تدوين أفكاره؛ وهو مدرك أنه ابتداء من هذه اللحظة قد صار في عداد الموتى.
الشخصية الخيالية الأخ الكبير وملامح عالمه تشبه ما يعرض من سلسلة أفلام «ماتريكس» أو فيلم «V for Vendetta», هو قائد الحزب يمثل الفكر الجمعي لأعضاء الحزب الداخلي (الطبقة العليا) وهو فكرة وليس شخصاً. لا يقبل تعدّد الآراء واختلافها، حيث أن «الأخ الأكبر» يفكر ويقرر نيابة عن الجميع.
وفكرة ”شرطة الفكر“ الموجودة في الرواية مستوحاة من الـNKDV السوفييتية والشرطة السرية اليابانية. كان هذان التنظيمان يعتقلان الناس على الشبهة لامتلاكهم أفكاراً مخالفة للحكم الدكتاتوري.
وتتكون صورة لدى القارئ الكريم بوجود السلطة الشمولية التي أهم أهدافها كما يظهر في الرواية- هو عملية السيطرة على كل الأشكال الذاتية لتوليد المعرفة، كالخيال، والرمز، واللغة، والعقل، وأنماط العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ حيث تتكرر طوال الرواية عبارات على لسان مُمثلي السُلطة توضح حجم النزوع السُلطوي الشمولي تجاه كل ما من شأنه أن يخلق لدى الفرد استقلالية في التفكير، وقدرة ذاتية على إنتاج المعرفة .
توحي لنا قراءة بدايات رواية «1984» أن أفق التحرّر من الاستبداد ممكن وتقودنا نهايتها إلى التسليم باستحالته بسبب «اختلال» موازين القوى بين المجتمع والدولة في العصور الراهنة.
وتلخص قناعة الكاتب في الفصل السابع من الرواية أن المهمّ ليس في البقاء حيا بل في البقاء انسانا … رغما عن الحزب.
وفي الفصل التاسع لايستطيع القارئ أن يفرق بين تعاليق ونستون وآرائه وبين تلك التي كان يكتشفها في كتاب زعيم المعارضين للحزب .
ويستخلص من الرواية : «انسداد الأفق» مصير حتمي تحدّده أوضاع الدكتاتورية الشمولية، ويقبل به الفرد والمجتمع بأشكال متعدّدة و ويستخلص من الرواية: «انسداد الأفق» مصير حتمي تحدّده أوضاع الدكتاتورية الشمولية، ويقبل به الفرد والمجتمع بأشكال متعدّدة وعن وعي أحيانا وعن لا وعي أحيانا أخرى لأن التفكير في البديل عنه أمر مستحيل على المدى المعقول .
وفي صورة قهر المجتمع يضع المؤلف سؤاله من هو المنتصر الحقيقي : «الأخ الأكبر» (الحزب الحاكم) أم المواطن الأصغر (ونستون) ؟ !
وأخيراً نتحسس من خلال القراءة الصورة الواقعية لمجتمع الثورة الذي رسمه المؤلف والتي برزت شكلا ومضمونا كفاجعة تاريخية ضربت الواقع والوعي، أنها رواية رسمت الرعب كنمط للحياة.