يبدو لي منشأ الصراع ما بين الغرب وروسيا هو عجز الغرب عن تجاوز أجواء “الحرب الباردة” و”الخطر السوفيتي الأحمر” المزعوم المحيق دائما بأوروبا، وتجاوز روسيا لكل ذلك. وجوهر هذا الصراع هو عجز الغرب عن استيعاب حقيقة أن روسيا لم تعد ولن تكون الاتحاد السوفيتي.
وعلى مدار ثلاثة عقود، حاولت روسيا، حتى فبراير الماضي، أن تثبت حسن نواياها، وتقدم كل ما تستطيع من ضمانات وتنازلات من أجل الولوج إلى المنظومة الدولية، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية، دون جدوى ولكن مع نجاحات جزئية حيث كان ذلك في مصلحة الغرب. أما القوة المهيمنة، الولايات المتحدة، فكانت، طوال هذه المدة، تطلب شرطاً وحيداً هو الانصياع الكامل للإرادة الغربية، وتسليم مفاتيح الأمن القومي الروسي إلى “البنتاغون”، من خلال التمدد شرقاً حتى تجسد هذا الشرط ليصبح “انضمام أوكرانيا إلى الناتو”، والاستيلاء على القرم وسيفاستوبول وإغلاق منفذ روسيا إلى المياه الدافئة وخنقها في محيطها الأوراسي، تمهيداً لتفكيكها إلى جمهوريات ودويلات يختلف الخبراء والمحللون الاستراتيجيون في عددها وطبيعتها، ناهيك عن التكلفة البشرية لذلك التفكك. فككوا الاتحاد السوفيتي، ويسعون الآن لتفكيك روسيا ببساطة ودون تعقيد.
من ناحية أخرى، لم تتمدد روسيا قيد أنملة نحو الغرب، ولم تنشئ أي أحلاف عسكرية أو سياسية تضم دولاً تقع إلى الغرب منها، بعد تفكك حلف وارسو، على العكس من “الناتو” الذي تمدد شرقاً حتى وصل اليوم إلى فنلندا والسويد، بعد أن دار الحديث عن ضم أوكرانيا إليه.
وحينما يصل التهديد إلى مسافة كيلومترات من الحدود الروسية، وترد روسيا بحزم على مخططات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية و”البنتاغون” وإدارة البيت الأبيض، تصبح روسيا فجأة “معتدٍ أثيم” و”محتلٍ غاشم” و”غازٍ مغتصب”، في حين أن الحشود الأوكرانية كادت تقوم بالغد بعمليتها العسكرية الثالثة في “دونباس”، بعد عمليتين فاشلتين خلال السنوات الثمان الماضية.
قرأت مؤخراً بعض التحليلات التي تتناول الرئيس بوتين بالنقد من وجهة النظر الأيديولوجية، بحثا عن الفكرة/الأيديولوجية التي تحرك الآن عمليته العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لكن المدخل نفسه خاطئ، فما يحرك بوتين في واقع الأمر هو التاريخ وليس الأيديولوجيا. وهو لن يسمح بالتخلي عن شبر واحد من الأراضي الروسية، ولن يستعيد في هذا السياق سوى حق روسيا وحق شعوبها الناطقة بالروسية، التي تحيا بالثقافة الروسية، والتي تتوق للعودة إلى دولتها التي اقتطعت منها بأخطاء تاريخية حملت معها ما وصل لأن توصم هذه الشعوب بأنها ليست من “الشعوب الأصلية” في مواد الدستور الأوكراني، وأن تمنع عن الحديث بلغتها الأم، وممارستها لأبسط حقوقها الثقافية والتاريخية. وتواجه روسيا الآن من أجل ذلك بأشرس عدوان وعقوبات في التاريخ الحديث للبشرية، لا لشيء إلا لأنها لجأت إلى استخدام القوة، التي لا يحق لأحد استخدامها سوى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ولم تلجأ روسيا لذلك سوى بعد أن استنفدت كافة الوسائل الأخرى، وطرقت جميع الأبواب دون إجابة. ومحاضر الجلسات في مفاوضات اتفاقيات مينسك موجودة لمن يريد أن يطلع، والوثائق لا تكذب.
إن العلاقة بين الشعبين الروسي والأوكراني تعود إلى تاريخ طويل يمكن وصفه بالمعقد والمتشابك، على الرغم من علاقات الدم والأخوة التي نشأت ولا زالت موجودة بين الشعبين، وما نسمعه من الرئيس الروسي بشأن مسيرات الأوكرانيين المتطرفين، وكتيبة آزوف، وغيرها من الظواهر التي تجعل من بين أهم أهداف العملية العسكرية الخاصة “اجتثاث النازية”، هي ظواهر حقيقية لها جذور في التاريخ لمن لا يعرف.
فقد كان تعداد المتواطئين مع النازي من أوكرانيا، وفقا لبيانات القيادة الألمانية، وتقديرات المؤرخين الروس، ممن كانوا جزءا من التشكيلات المسلحة إلى جانب ألمانيا النازية (فيرماخت، وقوات SS، والشرطة) يبلغ 250 ألفا.
تخوض روسيا عملياً مع الغرب صراع منذ 8 سنوات على أقل تقدير، عندما خلع الغرب برقع الحياء، ودعم وموّل الانقلاب في كييف عام 2014، وحوّل الصراع البارد المستمر منذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، عقب نجاح الثورة البرتقالية بزعامة فيكتور يوشينكو الموالي للغرب، إلى صراع سياسي عسكري ساخن خلال السنوات الثماني الأخيرة، بما تضمنه ذلك من عمليتين عسكريتين فاشلتين لضم الجمهوريتين المستقلتين دونيتسك ولوغانسك، ثم صراع عسكري مفتوح ومفضوح خلال الأشهر التسعة الأخيرة، بينما تحصل كييف على أطنان الأسلحة وآلاف المرتزقة من “الناتو”، وتعمل بحق كقفاز صريح للغرب ضد روسيا، ليصبح هذا الصراع صراعاً وجودياً للشعب الروسي أمام المخططات الغربية التي تهدد الأمن القومي الروسي، وليس “صراع السيد بوتين” كما يحاول الغرب تصويره.
لذلك فمن الضروري جداً أن يتفهم جميع زعماء العالم أن أبعاد وأهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا أبعد وأعمق بكثير من كونها استعادة الأراضي التاريخية الروسية، استجابةً لطموحات شعوبها من خلال استفتاءات شرعية، وهو أمر لا رجعة عنه، ولا تفاوض بشأنه بتاتاً. إلا أن مبادرات الوساطة مثل تلك التي أعلن عنها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وتضامن معها رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان هي جهود حميدة نأمل أن يستفيد منها الغرب وسلطات كييف لتخفيف العواقب السلبية التي لحقت ببلادهم وشعوبهم.
أما ما يحاوله الغرب من خلال العقوبات المفروضة على روسيا بغرض كسر الاقتصاد الروسي ومعه الإرادة الروسية، فإن ذلك لن يؤدي سوى إلى حشد مزيد من القوى الشعبية وراء القيادة السياسية الروسية في حربها ضد الغرب، والتاريخ يعلّمنا أن الشعب الروسي لا يهزم ولا ينكسر. لذلك فنصيحتي المخلصة لأي وساطة لإنهاء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ووقف إطلاق النار، تتطلب بالدرجة الأولى من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التراجع عن كافة الإجراءات التي اتخذت ضد روسيا اقتصادياً وعسكرياً، ولن تنجح أي وساطات دون ذلك، في وقت تتفاقم فيه الأوضاع نحو الأسوأ في الغرب.
أما من يصرح من زعماء العالم، كذباً وافتراءً، بأن ما يعانيه الاقتصاد الإقليمي أو الدولي بسبب “الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا”، فإن ذلك عارٍ تماماً عن الصحة، فروسيا لم تشن حرباً، وإنما تقوم بعملية عسكرية خاصة، وسبب التدهور والمعاناة الاقتصادية هو سياسة العقوبات والحصار التي تتبعها دول الغرب، وغيرها من الدول التي تدور في فلكها ضد عدد من البلدان وروسيا بشكل خاص.
ولعل إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مؤخراً عن رغبة 12 دولة على الأقل في الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، يعبر عن رغبة المزيد والمزيد من الدول إلى التحول إلى العالم الجديد متعدد الأقطاب، ويعكس تلك الحركة الحثيثة التي تجسد إرادة الشعوب وطموح الغالبية العظمى من شعوب الأرض إلى الانعتاق من النظام العالمي الراهن، الذي يتشبث به الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، استناداً إلى استثنائية وفوقية غير مبررة.